عقدة ألمانيا: مازال الضحايا يئنون ألماً

ألمانيا حرة في عقدتها، لكن أن تُجرّم نضال الفلسطيني كي تُريح ضميرها فهذا فعل بلا ضمير ويجعل جريمة ألمانيا مُركّبة.
اسرائيل مثل بقرة مقدسة يُعتبر المساس بها مساسًا بالعقيدة والثقافة والتاريخ الأوروبي
الرضوخ الألماني للصهاينة منذ الخمسينات سيفتح جروح الشعوب الأخرى التي عانت من النازيين

زعيم حزب القانون والعدالة ياروسلاف كاتشينسكي، الذي يُعتبر غالبًا "الزعيم الفعلي" و"رئيس الدولة" في بولندا، يقول إن الحكومة التي يقودها حزب القانون والعدالة ستطالب بتعويضات قدرها 1.3 تريليون دولار من ألمانيا لغزوها لبلاده في الحرب العالمية الثانية.

وهذا يعني أن الرضوخ الألماني للصهاينة منذ الخمسينات من القرن الماضي سيفتح جروح الشعوب الأخرى التي تعرضت للمذابح على يد النازيين. ولن يتوقف الامر على بولندا فروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وغيرها خسرت الملايين من الضحايا وخضعت شعوبها لمحارق حقيقية سجلتها كتب التاريخ، وهذا يعني ان الشطارة والبحث عن الحقوق لن يقتصرا على الصهاينة الذين استغلوا المأساة اليهودية لاهداف استعمارية احلالية في فلسطين.

وربما يجب على الفلسطينيين والعرب لبنانيين وسوريين ومصريين ان يرفعوا قضايا تعويض ضد بريطانيا والمانيا والولايات المتحدة وروسيا على ما سببته من نكبة ومأسٍ لم تتوقف بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة منذ 74عاماً؟ اليس هؤلاء شركاء في الجريمة، بل هم من صنعوها؟

تُعدُّ المحرقة من أكثر الكلمات استخدامًا في التوراة وكتاب العهد القديم عامةً، وهو الكتاب الذي يؤمن به يهود اليوم وكل الطوائف المسيحية في العالم. والمحرقة توراتيًا هي غذاء الآلهة التي يقدمها المؤمن من خلال الكهنة، وقد توقفت بحسب التاريخ اليهودي بعد خراب الهيكل الثاني، ولن تعاد إلا ببناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى. انتقلت المحرقة بوصفها فكرة من اليهودية إلى الثقافة الصهيونية ووظفت سياسيًا كي تخدم هدفًا استعماريًا، حيث أطلق الصهاينة على جرائم النازي الألماني تسمية محرقة (هولوكوست). ومن لا يعرف حقيقة ما حدث فإنه يظن أن النازي أشعل محرقة عظيمة وألقى فيها اليهود، لكن واقع الأمر أن المحرقة هي مجموع مجازر النازي وأفعاله الإجرامية ضد يهود أوروبا من الخزر الأشكيناز، وهي مذابح يندى لها جبين البشرية ووصمة عار ما زال يعاني من عقدتها الشعب الألماني. وعقدة الذنب هذه كلفت ألمانيا مليارات الدولارات دفعت من جيوب مواطني ألمانيا الغربية في القرن الماضي لدولة الصهاينة الناشئة في فلسطين. ويُقال أن دولة الاحتلال تأسست على المال الألماني، والتخطيط والدعم السياسي الإنكليزيين، والعنصر البشري اليهودي الروسي، والسلاح الفرنسي، والتبني الأميركي. إذًا ثمّة مجموعة مجازر ألمانية نازية ضد اليهود أطلق عليها الصهاينة تسمية محرقة، أو بالعبرية الملفقة الحديثة "مشواه"، أي الشواية. وكلها إشارات توراتية للمحرقة المقدسة. وهذا يقود أن التسمية الصهيونية ليست بريئة ولم تكن مجازًا، بل إن الضحايا وفق وجهة النظر الصهيونية هم بمثابة حطب المحرقة للمشروع الصهيوني، فما دامت المحرقة النازية مشتعلة في أذهان العالم، فالمحرقة القادمة المقدسة في فلسطين لها ما يبررها.

خمسون مجزرة في خمسين قرية فلسطينية ارتكبتها العصابات الصهيونية، وهناك مجازر يومية ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، والمجازر ليست فقط دماء وأشلاء لآلاف الضحايا من الأبرياء الفلسطينيين فقط، بل يرافقها حملات اعتقال مسعورة وقمع ومصادرة أراضي، وحصار لم يشهد له التاريخ مثيلًا من قبل. يسمعُ أنين الفلسطينيين في العالم الغربي صانع الصهيونية يوميًا، لكنه يصم أذنيه ويشجع الصهاينة على فعل المزيد من خلال الحماية التي يقدمها لهم. والسؤال الذي يطرح دائمًا: لماذا؟ ربما لأن المنطلقات الصهيونية هي منطلقات دينية تتقاطع مع المسيحية، والفلسطينيون هنا هم ضحايا لمحرقة المسيح القادم بن يوسف، وهو ليس بن مريم، بل مسيحا آخر. فلكي يأتي لا بد من دماء ضحايا تُعبّد طريقه إلى الدنيا؛ "لأنَّ الربَ إلَهكَ هو نارٌ آكلةٌ، إلهٌ غيورٌ" (تث 4: 24).

كتاب العهد القديم كتبه بعض من أجدادنا، عراقيون وفلسطينيون، كُتب في بلادنا ومدننا في القدس وطبريا ونابلس وبابل وكذا تفسيراته متعددة. لكن عندما يتحول الدين أداةً للسياسة تُصبح تفسيرات الكتب المقدسة غطاءً للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والعدوان والفصل العنصري والتطهير العرقي في فلسطين. لا علاقة للفلسطيني بمجازر النازي ضد يهود أوروبا أو ضد شعوب أوروبا روسًا وبيلاروسًا وأوكرانيين، فالفلسطيني ليس أوروبيًا. ذنب الفلسطيني أنه بطيبته المستمدة من طيبة أرضه وثقافة شعبه المحب للسلام، استقبل يومًا جموعًا من اللاجئين الفارين اليهود من المجازر الروسية ومن بعدها الألمانية، ليردوا له الجميل قتلًا وذبحًا وسلبًا وتشريدًا بدعوى أن إله اليهود، الذي تحوّل منذ القرن السادس عشر الميلادي إلهًا للبروتستانت أيضًا، قد وعد من يظنوا أنفسهم ورثة إبراهيم بامتلاك هذه الارض.

جوبهت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في برلين عن محرقة الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني بزوبعة هجومية، مثلما حدث عندما نشر كتابه "الوجه الآخر: العلاقات السرية بين النازية والصهيونية" (1984). فهل أخطأ أبو مازن في تصريحاته؟ على العكس، خيرًا فعل الرئيس عباس في ألمانيا عندما لم يعتذر عن عمل فدائي فلسطيني في ميونخ منذ سبعينات القرن الماضي، كان هدفه تذكير العالم بمأساتنا، وخيرًا فعل بمقارنته غير المباشرة بين مجازر الصهاينة ومحرقة النازي ضد اليهود.

المحرقة النازية هي ماض ألماني بشع ومدان، لكن يجب أن لا يكون الاعتراف بمذابح النازي غطاءً لاحتلال فلسطين واستمرار أعمال الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وقضيته وتاريخه وتراثه. إذا كان الألماني يتألم فليفعل ما ذكره في أواسط أربعينيات القرن الماضي الملك عبدالعزيز آل سعود للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت: "إذا كنتم تريدون التكفير عن الذنب بإيجاد وطن قومي لليهود، فالأولى أن تمنحوهم أفضل قطعة أرض في ألمانيا كونهم من ارتكب الجريمة، وليس أرض العرب الفلسطينيين المسالمين الذين لم يذنبوا بشيء".

جرّمت ألمانيا حركة مقاطعة إسرائيل BDS، وطردت صحافيين فلسطينيين وعرب من قناة دوتشفيليه بسبب كتاباتهم الداعمة للنضال الفلسطيني. ألمانيا حرة في عقدتها، لكن أن تُجرّم نضال الفلسطيني كي تُريح ضميرها فهذا فعل بلا ضمير ويجعل جريمة ألمانيا مُركّبة، فهي ارتكبت مجازر ما يُعرف بالهولوكوست ضد يهود أوروبا وتعيد الكرَّة هذه المرة بمساندة مجازر الصهاينة في هولوكوست مستمر ضد الشعب الفلسطيني وبذلك تُصبح شريكًا في الهولوكوست الجديد، فإذا كان هناك ضمير يتألم، فليتألم للإنسانية وليس لصالح طرف واحد على حساب الآخر.

يومًا بعد يوم تتضح هوية دولة الصهاينة في المخيال الأوروبي والأميركي، فهي تمثل بقرة مقدسة لا يمكن المساس بها، والمساس بها يعتبر مساسًا بالعقيدة والثقافة والتاريخ الأوروبي. لذا، لا يمكن للعربات أن تمر ما لم تتزحزح تلك البقرة من الشارع، والاقتراب منها قد تعقبه مجازر وأشلاء بشرية ستحميها دول الغرب وتبررها بدعوى الإرهاب الفلسطيني. لذلك، ليس غريبًا أن يجرموا كل من يحاول التشكيك بالرواية الصهيونية عالمًا كان أو سياسيًا أو فنانًا أو عارضة أزياء، والأخطر والأكثر فجورًا أن يُطلب من سياسي فلسطيني أو حتى أي شخص فلسطيني عادي؛ لاجئًا كان أو مغتربًا، أن يكون متزنًا في حديثه عن دولة الصهاينة "إسرائيل"، بمعنى أن توضع دولة الصهاينة على قدم المساواة مع الضحية فلسطين.

لطالما أدرك العرب سياسيين وباحثين ومراقبين أن العقدة ليست في إسرائيل وحدها، فهي ورغم الإمكانيات الكبيرة التي وضعت في تصرفها، دولة بلا عمق جغرافي، وهي بذلك تُعدُّ ساقطة عسكريًا، لكن عمقها السياسي هو الذي يؤمّن لها الحماية في وقت الأزمات وينتشلها من مأزقها. دولة الصهاينة أصبحت مركبا دينيا استراتيجيا غربيا وقلعة متقدمة، لا يمكن تفكيكها أو إعادة صياغتها إلا بنزع الشرعية عنها، والخطوة الأولى نحو ذلك هو نبذ حل الدولتين لأنه مضيعة للوقت، والذهاب عوضًا عنه نحو فلسطين كاملة غير عنصرية‏.

في زيارته الأخيرة لألمانيا، طرح الرئيس محمود عباس خيارًا جديدًا تحدى أن تقبله دولة الصهاينة، وهو حل الدولة الواحدة. طبعًا لن تقبله دولة الصهاينة لا اليوم ولا في المستقبل، ولن يقبله حلفاؤها الغربيين، بل إن معظم العرب الرسميين لا يفضلونه، فهم في إصرار غريب على أن حل الدولتين هو الحل الوحيد المقبول والممكن! نعم حل الدولة الواحدة هو الحل الأمثل، لكنه بحاجة لنضال فلسطيني من نوع آخر واستراتيجية واضحة تتحلل من الماضي وترسم طريق مستقبل، هذا الخيار قد تبنّته معظم النخب الثقافية الفلسطينية من أبرزهم إدوارد سعيد وعزمي بشارة، فهل سيفعلها الرئيس الفلسطيني ويحوّله إلى هدف قادم تتبناه كل الفصائل والشرائح الفلسطينية؟

تشرين الأول/ نوفمبر 2022، هو التاريخ الذي حدده أبو مازن في خطابه العام الماضي موعدًا نهائيًا لتنفيذ حل الدولتين. وإلى اليوم لم تتقدم دولة الصهاينة بأي خطوات عملية نحو ذلك. وعليه، لم يبق أمام عباس إلا أن يُقدّم رؤيته الجديدة حول حل الصراع الفلسطيني الصهيوني، وهو حل الدولة الواحدة، والمسألة ليست مقترحًا، بل خطوات عملية أوّلها سحب اعترافه بدولة "إسرائيل"، ووقف كافة أشكال التعامل معها؛ أي تنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني. فهل سيفعلها حقًا؟