عمر كامل يبحر في العمق الإسرائيلي ويفكك أساطير الصهيونية

كتاب "اليهود العرب في إسرائيل.. رؤية معرفية" يروي قصة يهود الشرق في إسرائيل.
آباء الدولة العبرية من الأشكناز لم يكونوا يهتمون بيهود البلدان العربية
الكاتب الإسرائيلي عمنون كابليوك يرى أن المرء إما أن يكون يهوديا أو عربيا

يروي هذا الكتاب الضخم "اليهود العرب في إسرائيل.. رؤية معرفية" للباحث د. عمر كامل رواية قصة يهود الشرق في إسرائيل، حيث يقدم رحلة استكشافية من البحث والتنقيب في ثنايا المجتمع السياسي والديني في الداخل الإسرائيلي، ليس فقط عن طريق الكتب والأبحاث المتوفرة في الجامعات والمكتبات العربية، ولكن من خلال اتباع منهجية الدراسة الميدنية والانخراط في طيات المجتمع وخاصة مجتمع اليهود ذوي الأصول العربية وأخيرا الاطلاع على كل ما كتب عن هذا المجتمع بالدراسة والتمحيص ومن بينها وثائق مؤسسات الأرشيف الإسرائيلية.
بني الكتاب الذي ترجمته د. شرين القباني على رسالة للدكتوراه من معهد العلاقات الدولية التابع لقسم العلوم السياسية التابع لكلية العلوم الاجتماعية والفلسفية، ويهدف إلى تناول أمرين متداخلين الأول هو معالجة إشكالية هجرة اليهود العرب كحملة لثقافة عربية إسلامية في مجتمع غلب على مؤسسيه الهوية اليهودية الأوروبية، مستعرضا علاقة يهود الشرق الإسلامي مع يهود أوروبا المسيحية، باحثا ومحللا كيفية جلبهم إلى إسرائيل من مصر والعراق وسوريا واليمن والمغرب على سبيل المثال، ومن ثم ينطلق في دراسة سياسة استيعاب يهود البلاد العربية في مجتمع وإن كان يفاخر بيهوديته إلا أنها يهودية ذات صبغة أوروبية المنشأ والثقافة. 
والأمر الثاني الذي استهدفه الكتاب هو أن دراسة تاريخ وثقافة أي مجتمع بشري قد تنطلق من دراسة شخصية لها باع في هذا التاريخ أو حدث له تأثير في هذا المجتمع، لكن هنا رأى الباحث أن يأخذ فريقا مهمشا من المجتمع الإسرائيلي ليس فقط من أجل دراسة ظاهرة تهميش يهود البلدان العربية في إسرائيل بل من أجل قراءة وفهم المركزية الإسرائيلية ممثلة في الهيمنة الصهيونية على اختلاف أوجه الحياة في الداخل الإسرائيلي السياسي والديني والثقافي منها.
وقع اختيار الباحث د. عمر كامل في كتابه الصادر عن مكتبة الإسكندرية على المثقف الإيطالي أنطونيو جرامشي وبالأحرى أفكاره النظرية حول كيفية بناء وتشييد طبقة معينة لنظام هيمني يسعى للسيطرة على الدولة والمجتمع، مراعيا في الاختيار أمرين، الأول هو أن أهل البحث والدراية في الشئون الإسرائيلية يميلون في شرح الداخل الإسرائيلي في إطار منهجية ثقافية، إلى أن الدولة العبرية ومنذ لحظات المهد الأولى يسيد فيها اليهود الأوروبيون وقد جرت العادة على تسميتهم بالأشكناز، على مقدرات يهود الشرق المعروفين بالتعميم تحت مصطلح سفاراد أو السفارديم. 
وفي شرح للسيادة الأشكنازية على السفارديم يميل الرأي إلى ثنائية المثاقفة والتي ترى في اليهود الأشكناز أبناء حضارة أوروبية لها التفوق في مقابل السفارديم كأبناء ثقافة عربية إسلامية متأخرة. ومن هنا كان اختيار جرامشي لشرحه الهيمنة في إطار توافق بين المنهجية الاقتصادية بالعامل الثقافي. 
الأمر الثاني لاختيار جرامشي يكمن في أفكاره والتي تقدم نموذجا معرفيا متكاملا مكن الباحث من شرح المجتمع الإسرائيلي وتقديم رؤية عارية للمشهد الإسرائيلي في إطار منهجية معرفية تستخدم الأطر والأدوات النظرية التي طورها المفكر الإيطالي جرامشي.
وأشار د. كامل إلى أن آباء الدولة العبرية من الأشكناز لم يكونوا يهتمون بيهود البلدان العربية، كيف لهم وهم أبناء الحضارة الأوروبية الذي أتوا إلى فلسطين لتحريرها من البربرية العربية، كيف لهم أن يستعينوا بيهود الشرق العربي، فعلى الرغم من كونهم يهودا فإنهم كانوا أبناء لهذه الثقافة البربرية، وحيث إن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد جاءت النازية وتولى هتلر الحكم ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية وجد النازيون الأوروبيون حلا آخر للمسألة اليهودية في أوروبا وتمثل هذا الحل في الإبادة الأوروبية لليهود. إذن ومع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 كانت البنية الأساسية للدولة اليهودية الاستعمارية في فلسطين قد أسست، إلا أن مواطنيها أو من كان يتوقع لهم استيطان فلسطين من يهود أوروبا، قد تمت إبادة أعداد كبيرة منهم والأحياء منهم لم يكونوا بتلك الأعداد المرجوة للمشروع القومي الجديد. وفي تلك اللحظة واجهت الزعامة الإسرائيلية الأشكنازية معضلة الاحتياج إلى نوع آخر من اليهود. هؤلاء اليهود لم يأتوا من أوروبا وإنما وجب جلبهم من تلك المناطق التي تشكل وفقا لكلمات هرتزل "المناطق البربرية".    
واستعرض د. كامل مصطلح "اليهود العرب" استعراضا يتوافق مع إشكاليته ودلالته معرفيا، وقال لتوضيح البعد المعرفي نذهب إلى الكاتب الإسرائيلي عمنون كابليوك "1930 ـ 2009" الذي تعرض في إحدى مقالاته لجريدة لوموند لمصطلح "اليهودي العربي" مدعيا أن المصطلح يحمل تناقضا في ذاته، فالمرء إما أن يكون يهوديا أو عربيا، قد يتفق المرء مع كابليوك أو يختلف، إلا أنه وحين يشدد الكاتب الإسرائيلي على أحادية الهوية إما أن تكون يهوديا أو تكون عربيا، فإنه ينطلق من أرضية أشكنازية صهيونية، لأن الفكر الصهيوني يعترف بأن اليهودي يمكن أن يكون فرنسيا أو بولنديا أو حتى - وعلى الرغم من كارثة الهولوكوست - ألمانيا، أما أن يكون عربيا فهذا ما رفضه كابليوك انطلاقا من الفكرة الصهيونية التي رفضت أن يكون اليهودي القادم من القاهرة وبغداد ودمشق وعدن والرباط عربيا، وأطلقت عليهم مسميات عديدة: أبناء المجتمعات الشرقية، اليهود الأفروآسيويين، اليهود غير الأوروبيين، يهود العالم الثالث، يهود إسرائيل الثانية، السفارديم، الميزراحيم (أي اليهود المنتمين للشرق) شيخوريم أو اليهود السود، أو الدروميم (أي اليهود القادمين من الجنوب) ولم تهبط هذه المسميات من السماء وإنما هي نتاج سياق اجتماعي وسياسي وثقافي معين صهيوني يرفض الانتماء اليهودي للثقافة العربية.
ورأى د. كامل أن كل هذه التسميات توضح أن إسرائيل كانت دولة أشكنازية لم تقبل اليهود العرب إلا بعد تحويلهم إلى أشكنازيين، أي جعلهم إسرائيليين وهذا يعني التحلل من ثقافتهم وانتمائهم العربي. 
وأضاف "إن دولة إسرائيل الأشكنازاية قد تأسست في محيط ثقافي فكري عربي، ولكنها مع ذلك كانت ترفض أن تختلط بأية صورة من الصور مع هذه البيئة العربية، ناهيك عن التصالح معها، وهنا لا أقصد التصالح السياسي، بل تصالح المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي مع محيطه العربي، بل على العكس فقد ظل العرب ولغتهم في الغالب رمزا من رموز التخلف والانحطاط في الكتابات الصهيونية. 
ومع وصول اليهود من الدول العربية، أسقطت الدولة الأشكنازية مشكلتها مع بيئتها العربية على هؤلاء اليهود. وهنا واجه اليهود العرب اختيارا صعبا إما أن يبقوا عربا، وبذلك يظلون خارج نطاق الصهيونية السياسية باعتبارهم مجرد تواجد يهودي مهمش داخل المجتمع الأشكنازي الصهيوني، وإما أن يكونوا يهودا، وبذلك يكونون جزءا من الشعب الذي تشكل حديثا. قضية يهودي أم عربي مثلما يصبغها كابليوك. لقد شكلت ازدواجية انتماء الجيل الأول من يهود المجتمعات العربية إشكالية.
وأوضح د. كامل أنه يمكن تقسيم اليهود إلى فريقين: اليهودي المسلم، واليهودي المسيحي، هذا التقسيم الديني الداخلي والتقسيم القائم على أساس المناهج المختلفة يصيغ علاقات المجموعتين حتى الوقت الحاضر، فإذا ما انفصل هذان المجتمعان جغرافيا، فعندئذ يقتصر التقسيم على نقاشات جدلية بين حاخامات الطرفين، أما إذا تشارك أتباع هذين المجتمعين في نفس المساحة المكانية كما هو الحال في الدولة العبرية فهنا يخرج الانقسام من دائرة الحاخامات ويؤدي إلى صراعات في الحياة اليومية الأمر الذي يزيد من صعوبة التعايش.
وقال د. كامل "إن التلاقي والتقابل بين الأشكنازية والسفاردية في إسرائيل لم يؤد إلى اتحاد المجتمعين المتدينين تحت راية منهج واحد مشترك. حتى اليوم يتمسك الطرفان بالمناهج المتأثرة بالعالم الإسلامي أو المسيحي، فالمؤسسة الدينية التي واكبت تأسيس الدولة كانت إلى حد بعيد أشكنازية وكانت تفضل المنهج الديني الأشكنازي، في حين إنه كان لزاما على حاخامات السفاردية أن يتأملوا بحسرة كيف كان منهجهم في أرض إسرائيل يفقد أهميته باستمرار بسبب الهجرة الأشكنازية المتزايدة. 
حتى ثمانينيات القرن العشرين سيطر المنهج الأشكنازي على الحياة الدينية في إسرائيل، غير أنه مع التزايد السكاني لليهود السفارديم وهو ما وضع حجر الأساس لبداية نهاية الهيمنة الأشكنازية في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ حاخامات السفاردية اليهودية في تحدي هذه المؤسسة الأشكنازية والتشكيك في صحة المنهج الأشكنازي. ومع تزايد نفوذ حزب شاس وحاخاماته السفارديم خاصة الحاخام عوفاديا يوسف، لم يعد الأمر مجرد منافسة مع المنهج الأشكنازي بل أصبح هناك اتجاه للإجابة عن التساؤلات الدينية والدنيوية وفقا للمنهج السفاردي، وكذلك إعادة تجديد وصياغة المكانة القيادية للمنهج السفاردي في أرض إسرائيل والذي واكب وصول اليهود الأشكناز منتصف القرن التاسع عشر.
وفي كلمة ختامية "إسرائيل من ديفيد بن جوريون إلى الحاخام عوفاديا يوسف" رأى د. كامل أن الحاخام يوسف حاول خلق نظام جديد، هيمنة مضادة، لا تقوم على صهيونية علمانية وإنما على صهيونية دينية ـ سفارديمية، وفي مركز الهيمنة المضادة تنشئة إسرائيلي جديد. هذا الإسرائيلي الجديد الذي يسعى له حزب شاس يظهر في مخيلة ديفيد بن جوريون بصورة موازية للإسرائيلي الجديد في الأربعينيات والخمسينيات، فإذا ما كان هذا الإسرائيلي الجديد لبن جوريون هو يهودي أشكنازي ـ علماني تحرر من عبء الشتات الأخير، ويعترف بدلا من ذلك بماضيه البعيد المرتبط بالكتاب المقدس، نجد أن الحاخام يوسف يسعى إلى خلق يهودي ينكر شتاته العربي القريب ويرتبط بشتات أقدم، وهو الشتات السفارديمي ـ الديني، هذا التصور حول الإسرائيلي الجديد الذي يجب أن يكون سفارديميا متدينا كان حاضرا بقوة في الحاخام يوسف. لذا أكد يتسحاك سوديري المتحدث باسم حزب شاس على أن محور المؤسسات التعليمية لحزب شاس هو خلق إسرائيلي متدين جديد، على عكس اليهودي الجديد الذي كان يسعى بن جوريون إلى خلقه في الدولة الجديدة.
وخلص د. كامل إلى أنه بغض النظر عن مستقبل حزب شاس ونهاية حقبة عوفاديا يوسف وعودة أرييه درعي إلا أن الكتاب حاول تقديم رؤية للداخل الإسرائيلي سواء على مستوى معالجة قضية رؤية الصهيونية للشرق من خلال علاقة الأشكناز بالسفارديم، أو تفكيك أساطير الصهيونية.