عبدالرحمن مجيد الربيعي في 'الشعارات تتبارى' يقدم الوطن الثائر

الكاتب العراقي الراحل في مجموعته القصصية يصوغ تجارب فردية أو جماعية تتوالد عبرها الدلالات وتتنوع، فتنقلنا من أفق الواقع الضيّق إلى أفق الإنساني الكوني الرحب.

في مجموعته القصصية "الشعارات تتبارى" عن دار البدوي للنشر والتوزيع ط1 يعود عبدالرحمان مجيد الربيعي بعد كتابات عديدة في السيرة الذاتية إلى التقاط   لحظات الراهن المعيش في فضاءات تشهد تحولات سياسية واجتماعية كبرى، تتفاعل الذات مع الواقع فتبني من الحكايات عالما تخييليا متفردا ببساطته أحيانا، غرائبيا عجائبيا بمفارقاته، مقلقا ومستفزا للحيرة بتقلباته. تتجاوز الذات في مجموعة "الشعارات تتبارى" همومها الفردية لتعانق هموم الجماعة وتندغم الحدود بين التاريخ الذاتي والموضوعي.

تهجس أقاصيص المجموعة بالتحولات الفادحة التي تطال المكان والزمان والشخصيات فتنقلها من قناعاتها الأولى وطمأنينتها إلى لذعة الحيرة والقلق والشك عبر صور قصصية متعددة يصوغها السرد في إشارات مختزلة وإيحاءات كثيفة مشاهد ولوحات يلتقط فيها اللحظات العابرة، ليصوغ تجارب فردية أو جماعية تتوالد عبرها الدلالات وتتنوع، فتنقلنا من أفق الواقع الضيّق إلى أفق الإنساني الكوني الرحب.

العنوان وثنائية الحلم/الواقع:

يوفر العنوان باعتباره جزءا من النص المصاحب مثله مثل الهوامش الأخرى أو العتبات (الإهداء، التصدير، مقدمة الناشر، الغلاف الخارجي ..) حلقة وسطى بين المؤلف والقارئ يوفر مسالك أولى للقراءة والتأويل. وتتلبّس بالعنوان شحنة إيحائية تلك التي تبرز في العناوين الرمزية (حسب جينات) وتتجلّى عبره أيضا الوظيفة الإغرائية تستقطب قارئا يبحث عن صدى لأحلامه وآماله في الشعارات، وإضافة إلى المعنى اللغوي الأول (الشعار هو العلامة في الحرب والسفر) ففي الشعارات إحالة على رؤى ومواقف وأفكار وإيديولوجيا تختزلها العبارة وتبوح بها علنا تأكيدا على سلطة الكلمة وقدرتها على التغيير. وترتبط الشعارات عادة بسياقات الحراك الاجتماعي والفعل السياسي حلما بعالم مختلف وتشوّفا إلى واقع أفضل.. وقد يتضمن الشعار دلالة تهجينيّة حين يبقى مجرّد قول لا يمتّ إلى الواقع بصلة أو يستحيل تحققه. إلا أن الشعار في كل الأحوال يبقى جزءا من عالم ذهني مجرد ورؤية للوجود لا تتحقق إلا عبر الفعل والتجربة.

ويضع الفعل "تتبارى" القارئ في معمعة هذا الفعل الجماعي بل يتجاوز الكلمة  -  وهي ضرب من ضروب الفعل – إلى المواجهة والمنافسة والصدام على أرض الواقع فننتقل عبر التباري من المجرد إلى الحسي ومن الحلم إلى الواقع. الشعار قول يتغيّا تغيير الواقع والفكر عبر الكلمة، عبر نشر مضمون الشعار–العلامة-  وما يشير إليه من قناعات ورؤى لتحويل الحلم إلى حقيقة. لكنه فعل يتنزل أيضا في إطار الصراع والصدام في حلبة ما أو فضاء يحتوي هذه الشعارات. وهو أيضا فعل قد يستتبع خسائر وهزائم أو انتصارات... هي ثنائيات يولّدها العنوان أهمّها ثنائية الواقع /الحلم، الانتصار /الهزيمة، فهل سنجد صداها في أقاصيص المجموعة رغم أن العنوان المقترح للمجموعة هو واحد من العناوين لخمس عشرة  قصة؟

قد تكون الصفحة الخارجية والأخيرة من المجموعة مساعدة في مسالك القراءة والتأويل، ففي هذه العتبة إشارة صريحة ودالة إلى السياقين التاريخيين اللذين حضنا الكتابة وأثرا فيها وهما تحديدا "العراق ما بعد احتلاله عام 2003 وتونس بعد ثورتها في 14 يناير/كانون الثاني 2011. هي قصص ولدت من مختبر المتابعة والقراءة لتفاصيل الأحداث ...".

بنية الفضاء ودلالاته:

لئن كان المكان يمثل محورا أساسيا في نظريات السرد إذ يوفر خلفية للأحداث والوقائع ويعدّ معادلا كنائيا للشخصية وعنصرا تشكيليا من عناصر العمل الأدبي ومقوّما من مقوّمات جماليته، فإنه لا يعدّ مع ذلك سوى مكوّن من مكوّنات الفضاء سواء كان فضاء الرواية أو فضاء القصة. يمكن القول إن "تاريخ الإنسان هو تاريخ تفاعلاته مع الفضاء مثلما مع الزمن. ذلك أن الفضاء يلعب دورا حيويا على مستوى الفهم والتفسير والقراءة النقدية" (حسن نجمي: شعرية الفضاء، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط 1، 2000).

وتنشدّ أقاصيص الربيعي في "الشعارات تتبارى" إلى أمكنة مختلفة تلتقي في فضاءين يمثلان جزءا من تجربة الكاتب الطويلة أولهما فضاء الوطن الجريح (العراق) بأوجاعه وآلامه في فترة حالكة من تاريخه الحديث هي سنوات الحصار ثم سنوات الغزو الأجنبي وما تلاه من حرب داخلية، وثانيهما وطن الغربة (تونس) الذي احتضن الكاتب بعد خروجه من العراق لكنه لم يسلم هو أيضا من تقلبات وهيجان وفوضى وصراعات رصدتها أقاصيص المجموعة عبر عين هي عين الراوي متفاعلة مع الشخصيات والوقائع والأمكنة. تنشدّ الفضاءات في أقاصيص المجموعة إلى ثنائية هامة منها تتناسل الدلالات: فضاء الشعارات في الوطن الثائر  وفضاء الانكسارات في الوطن الجريح.

يهيمن الفضاء الأول على المجموعة، إذ تتصل به اثنتا عشرة قصة في حين يحضر العراق بشكل مباشر أو رمزي في ثلاث أقاصيص فقط. لكن الفضاءين (فضاء الشعارات وفضاء الانكسارات) يتعالقان ويتقاطعان في عدد من الأقاصيص عبر ما ينسجه السرد من علاقات بين الشخصيات والأماكن والأحداث  وعبر منظور الراوي ورؤيته للعالم.

تشكل الفضاءات في عدد من القصص عالما متحركا منفتحا. يتفاعل الفردي والجماعي في هذه الأمكنة فيتشكل الفضاء ساحة للصراع بين الرؤى والأصوات ومجالا رحبا للفوضى والتوتر، حيث لم يعد الإنسان قادرا على السيطرة على التناقضات ولا فهمها أو تفسيرها..

1 - فضاء الوطن الثائر/فضاء الحلم والشعارات:

- في القطار والمترو/لقاءات وتحوّلات:

ينحسر وصف المكان ويتقلص في الأقاصيص التي تتخذ من المترو أو القطار خلفية تقع فيها الأحداث لينحاز الخطاب إلى تصوير العلاقات البشرية التي تنشأ في هذا المكان ورصد انفعالاتها فتكون هي بؤرة الحكي، فالقطار لا يكتسب قيمته في السرد إلا براكبيه، بعلاقاتهم ورؤاهم وأحيانا بالوجهة التي اختاروها. ترصد عين الراوي في المترو شخصيات عديدة تبقى غالبا نكرة لا يسند لا اسم ولا يعرف لها ماض محدّد، وتنكشف هويتها فقط عبر العين الرائية (منظور الراوي) أو عبر ما يلتقط من حوارها مع بقية الشخصيات.

الشخصيات في فضاء المترو شباب في الثلاثين منحتهم الثورة حرية لم يحلموا بها فاختاروا السير في طريق الماضي والحلم به بديلا عن المستقبل وأطلقوا اللحية واستعاروا لباس المقاتلين الأفغان تأسيسا لهوية مفقودة وتمثلا بالسلف، في حين سادت الحيرة لدى الشيوخ إزاء هذا اللباس، هم الذين اختاروا ما يشدهم إلى حاضرهم رغم السنين الهاربة (حيرة عجوزين). تتحرر الشخصيات في المترو من قيودها ومكبلاتها  فتستطيع إحداها أن تلقي خطبة عصماء، وتطالب بمحاسبة الأعداء، حتى وإن كان جمهورها عاجزا عن فهم خطابها ومتابعته (خطبة عصماء)، فالفضاء مشاع للجميع وهو فضاء الثورة والحلم وما يتولد عنه من حرية وجرأة وحراك سياسي واجتماعي. لكن هذا الفضاء يتسع أيضا للمتحيّلين والمتسولين وصانعي العاهات كسبا لمال لا يرون له طريقا آخر وإثباتا لحقهم في الحياة (ما رواه شهود عيان من حكايات مترو الدندان).

'الشعارات تتبارى'

يتعين فضاء القطار بوصفه رمزا لحركة الحياة وعدم استقرارها، فضاء حاضنا للقاءات السريعة المفاجئة ومشاهد الحياة العابرة. لكنه فضاء كاشف للتحوّلات والتقلبات التي طالت الفرد والجماعة في بلد رفض قيوده وكسر طوق الصمت المفروض عليه وأشرع أبواب الحلم. يبدو القطار فضاء لحرية الكلمة وفضح ممارسات الحكام والتنديد بالحصار المفروض على المواطن العربي قبل الثورة (القصة الأولى). وهو أيضا فضاء الصدام بين الماضي والحاضر، فضاء الحيرة والبحث عن الهوية ترتسم فيه ملامح واقع متحول ووعي جماعي جديد لم يسلم من التقلب والضبابية، وتتولد عنه أسئلة جديدة تطرح على الفرد والجماعة. تمارس الشخصيات فيه حقها في القول فتتفاعل الهموم الاجتماعية والسياسية دون أن تحسم القضايا، ليبقى السؤال قائما في غالب الأحيان وقد نبتت في هذا الفضاء بذور الحيرة والشك. على أنه يبقى مع ذلك مفتوحا على الشارع متواصلا مع مكوناته.

- فضاء المقهى/التذكر واغتياب العالم:

يبدو المقهى بوصفه مكانا ثابتا أكثر إحالة على الاستقرار والهدوء من القطار أو المترو وهو مع ذلك ليس مكانا مغلقا، إذ ينفتح غالبا على الشارع وقد يعوضه أحيانا المطعم ويسهم كل منهما في إكساب الشخصيات والعلاقات بينها سمات متميزة. واللافت في مجموعة الربيعي أن المقهى – مكانا – لا يحظى هو أيضا بالوصف الحسي الدقيق لخصائصه ومكوناته. يكتفى الراوي غالبا بتحديد موقع المقهى أو اسمه فلا يكتسب قيمته إلا من خلال الشخصيات التي تتحرك فيه وتتحاور ومن خلال ما يوفره لمرتاديه من شعور بالهدوء والاسترخاء يسمحان بالتعارف واكتشاف نماذج بشرية جديدة ومناقشة القضايا الهامة وتطارح أحاديث السياسة (قصة سيرك رئاسي) أو استدعاء الذكريات البعيدة.

تلتقط أذن الراوي في المقهى، حين لا يكون سوى شاهد على الحدث، شذرات من حوارات يهيمن عليها الهاجس السياسي والصراع حول السلطة والانقلابات (قصة سيرك رئاسي) وأخبار الاعتقالات قبل الثورة وتكاثر الأحزاب بعدها. وقد يكون الراوي طرفا في هذه الحوارات (الراوي شخصية) فينقل ما رآه من المقهى من مظاهرات واحتجاجات شعبية (قصة الشعارات تتبارى) أو يشارك في التنديد بتردي القيم وتفشي الوصولية والانتهازية (قصة بانوراما الجرذان).

ويتميز المقهى بحميمية العلاقات بين مرتاديه، لذا غالبا ما يوفر هذا الفضاء باستقراره وهدوئه النسبي الفرصة لاستحضار ذكريات الماضي البعيد وحكايات الوطن الجريح وانكساراته (معتز الموصلي وياسر الناصري  في قصة "أكثر من لحن شجي").

على أن فضاء المقهى لا يحتفل بالماضي فقط عبر التذكر بل يحتضن الحاضر أيضا، ولا ينحاز فقط إلى الوطن الجريح تذكرا (العراق) بل يحتفي بوطن الحلم والثورة، الوطن الذي احتضن الجراح وحاول لملمتها. وهو وطن يعيش مخاضا عسيرا وتوترا في الرؤى والقيم والأحلام. يوفر هذا المكان (المقهى) حيزا لمراقبة  البشر فيتمدد الوصف أحيانا.. يترصد الشخصيات و يبني بورتريات لبعض الشخصيات النموذجية. فيرصد الراوي بدقة متناهية حركات الشخصية الوصولية الانتهازية في قصة "بانوراما الجرذان" ويتجاوز ما هيمن على الحوارات في قصص أخرى من حزن وغضب ليكتسي صبغة مرحة قوامها السخرية والعبث (وصف شخصية سميح العابد).

المقهى في قصص المجموعة فضاء للتذكر لكنه فضاء منفتح على آلام الحاضر وأوجاعه ترصد فيه عين الراوي ملامح التحول في الإنسان والمجتمع عبر شخصيات مختلفة تشكل نماذج بشرية تستحق التأمل والتدبر، بل يتعين خاصة "بؤرة  للثرثرة السياسية واغتياب العالم كشكل من أشكال التعويض عن مأساة الذات الفردية الممزقة" (بوشوشة بن جمعة: اتجاهات الرواية في المغرب العربي، المغاربية للطباعة، ط 1، 1999).

- الشارع/الشعارات والفعل الجماعي:

ينفتح القطار والمقهى في مجموعة "الشعارات تتبارى" على الشارع  ليكون امتدادا لهما وإن تميز عنهما ببعض الخصائص، فهو مثل القطار يمور حركة غير أن التبئير فيه سيكون على الجماعة لا على الأفراد فيغدو صورة لما يشهده الواقع الاجتماعي والسياسي في الوطن الثائر من  تقلبات. ففي الشارع تتجسد أكثر  دلالات العنوان وما توحي به من ثنائيات أهمّها ثنائية الحلم (الشعار) والواقع (التباري) أو ثنائية القول/الفعل.

من أهم مكونات هذا الفضاء المكانية وإحالاته المرجعية الدالة "شارع بورقيبة" وهو الشارع الرمز في ثورة 14 يناير/كانون الثاني، وساحة الساعة (التي سميت بعدها ساحة 14 يناير/كانون الثاني)، ثم المسرح الوطني وبعض محطات المترو في تونس والدندان. هي أماكن مشحونة بدلالات رمزية وتاريخية تحتضن الشخصيات في هذه القصص وحركتها، وكثيرا ما تتجاوز ذلك ليكون الشارع نفسه مدار الحوار وموئل الذكريات. فاسم الشارع قد يوجه الحوار ويفعّل التذكر واسترجاع الماضي حين يرتبط باسم أحد من مارس السلطة وحكم البلاد "هؤلاء الذين يظنون أن البلدان التي آل إليهم حكمها هي إرث جاءهم من أجدادهم". وقد يحيل الشارع برمزيته إلى شوارع أخرى وأحداث عاشتها بلدان عربية أخرى فهي أماكن تذكّر الراوي (الشخصية) بمصير الطغاة في كل بلد "وهذا ما جرى في العراق أسقطت تماثيل وتبدلت أسماء ومحقت بنايات ودثرت معالم. فأي عراق سيولد من وسط الخراب؟".

لكن الشارع لا يحتضن الذكرى والماضي فقط بل يراهن على المستقبل وعلى تجسيد الحلم فهو الفضاء الذي يحوي الشعارات وينشرها. تصطدم بها عين الراوي من خلال عربات المترو على جدران محطاته وداخله وفي الساحات "فالمدينة فضاء مفتوح لكل الشعارات والرغبات التي كانت مخبأة في الصدور".

مدار هذه الشعارات سياسي غالبا، فيه توق إلى تجاوز أخطاء الماضي القامع للحريات وحلم بمدينة أفضل "لا للتجمع ..لا رجوع ../ تونس حرّة والتجمع على برّة / الشعب يريد دستورا مدنيا /...". لكنها تطال العقائدي أيضا "أقم صلاتك قبل مماتك" أو "الشعب يريد شرعية إسلامية" وتشمل الثقافي أخرى "الشعب يريد مسرحا" تتلاحق الشعارات والأحلام مكتوبة وشفوية أمام الراوي تغذي الصراعات والمواجهات في جل الاحتجاجات والمظاهرات. يتبدّى الشارع فضاء حيّا متحركا يتسع للأحلام والرؤى المتناقضة أحيانا لكنه يعكس عموما حركة وعي المجموعات التي تجاوزت مجرد الانخراط في هموم الواقع إلى الرغبة في تغييره. هو فضاء الاختلاف وفضاء الصدام العنيف أحيانا (قصة الشعارات تتبارى) وفضاء العلاقات المتوترة بين الحاكم والمحكوم وبين الرؤى المتضاربة لآت لم تتحدد ملامحه بعد.