لماذا تتعثر الديمقراطية في الخليج؟

تسعى منظومة السلطة التقليدية الى اثبات فشل منظومة الضغط والحداثة، واحد اهم الرسائل التي يكررونها باستمرار هي عدم قابلية شعوب المنطقة الخليجية للديمقراطية.

تتوق دول الخليج العربي لتصدر المشهد العالمي سواء في المجال السياسي او الاقتصادي او التقني، وتركن في هذا الطموح الى الثروة الاستثنائية التي خلقت طفرة في النهضة والتحول في ظرف سنوات قلائل، انتقلت خلالها من بلدان صحراوية بإمكانات محدودة وظروف معيشية متواضعة الى بحيرات نفط يتابع العالم نموها وحركتها وقراراتها.

من المؤكد ان دول الخليج خطت خطوات جبارة في النهوض الاقتصادي واشتغلت بقوة في تطوير بنيتها التحتية، لكن التطور السياسي تم تجاهله بشكل عام، على الرغم من تعدد صور الحراك الشعبي الذي ظهر هنا وهناك وحاول ان يعبر عن وعي سياسي مبكر لكن لم يكتب له النجاح.

ربما الاستثناء الوحيد بين دول الخليج هي الكويت، التي عاشت مخاضا عسيرا لم يتوقف عند اقرار اندية ثقافية ونقابات عمالية وانشطة سياسية او مهنية وهي الانشطة التي عمت جميع دول المنطقة، وانما تميزت بالقبول الذي ابداه نظام الحكم بتأسيس مجلس تشريعي، والفصل بين السلطات، وتنازل الاسرة الحاكمة عن جزء من سلطة القرار لصالح الشعب.

من البديهي ان الاستقرار السياسي القائم على توافق ومشاركة شعبية يساهم بشكل تلقائي في تقدم الدول من جميع النواحي، بمعنى ان حالة التضامن الشعبي مع الحكم من شأنه ان يخلق دافعا جمعيا نحو الافضل، وهذه من بديهيات الانظمة الديمقراطية واحد مصادر قوتها.

لكن الامور في دول الخليج لم تتحرك وفقا لهذه البديهيات، وانما وجدنا ان الدولة بعد تبنيها الخيار الديمقراطي في الكويت حققت انجازات على بعض المستويات السياسية لكنها اخفقت بشكل ذريع في جوانب اخرى مهمة، بل مصيرية من قبيل مكافحة الفساد وتطوير النظم الادارية وبناء الدولة، بشكل يتناقض مع الفكرة الديمقراطية وارتباطاتها القيمية والتقدمية.

بينما وجدنا أنظمة أخرى في الخليج تصنف سياسيا بانها انظمة شخصية وهو تعبير عن الحكم المطلق، لكنها استطاعت ان تحقق تقدما ملموسا في جوانب مهمة وحيوية، فان كان الخبراء يصنفون الكويت اكثر تقدما في العمل السياسي من دولة الامارات على سبيل المثال، فان دولة الامارات سبقت الكويت اقتصاديا واداريا وعمرانيا بمراحل زمنية.

هذه الملاحظة تتطلب تحليلا دقيقا لمعرفة الاسباب الحقيقية الكامنة خلف لا منطقية التجربة التنموية في دول الخليج من كل الجهات، وسيرها عكس خط التاريخ.

التفسير الذي اقدمه هنا ان دول الخليج اتبعت في وقت مبكر استراتيجية "تحصين الملوك". فنظام الحكم في الخليج وراثي، وله تقاليده الخاصة، وقام على جملة من المعادلات القبلية والسياسية، خلقت نمطا في العلاقات بين الحكم والهيئات التجارية والشعب بمكوناته المختلفة.

هذا النمط حاولت من خلاله الانظمة الخليجية الحفاظ على هذا الموروث، ومثلت التجربة الديمقراطية في الكويت قلقا كبيرا لها. فهذه التجربة ان نجحت فمن المؤكد ان فرص استنساخها خليجيا سوف تكون كبيرة جدا، وفقا لنظرية الدومينو في الانتقال الديمقراطي وتأثر الشعوب.

وفقا لهذه النظرية فان النموذج الديمقراطي الناجح في دولة ما ينتقل بشكل سريع الى الدول المجاورة، وان الشعوب تتأثر ببعضها البعض، لاسيما ان كان بينهم نقاط مشتركة، مثل العادات والتقاليد وهي المشتركات التي تلتقي عليها الشعوب الخليجية.

على المستوى العريض لمنطقة حوض دول الخليج العربي يمكن ملاحظة ان التنازع حول الديمقراطية انحصر بين منظومتين رئيسيتين:

الاولى- منظومة السلطة التقليدية: تحاول ان تحافظ على ميراث الحكم التقليدي في الخليج، ويدعم هذه المنظومة حكومات المنطقة ومجموعة من القبائل ورجال الاعمال ( التجار) والتيارات الدينية التقليدية. وتركز هذه المنظومة على افكار اساسية مثل التأكيد على قيم الولاء والطاعة، والحفاظ على الاعراف والتقاليد السياسية، والدفاع عن الاصالة.

والثانية- منظومة الضغط والحداثة: وتسعى الى التأسيس للديمقراطية والعدالة ومراقبة اداء السلطة، وحق المشاركة في صناعة القرار، وفرض الرقابة والمحاسبة المالية، والانتخابات النزيهة، والتسامح واحترام التعددية، وحرية المعتقد، والشراكة في الوطن. ويدعم هذه المنظومة بعض الاجيال الجديدة في الحكم، والتيارات السياسية الحديثة والشعوب بصفة عامة.

تسعى منظومة السلطة التقليدية الى اثبات فشل منظومة الضغط والحداثة، واحد اهم الرسائل التي يكررونها باستمرار هي عدم قابلية شعوب المنطقة الخليجية للديمقراطية، وان الدول العربية لا تتقدم الا بالحكم الفردي، فهي جبلت على القهر وفرض الانظمة والقرارات.

خلال الخمسين سنة الماضية طرحت العشرات من الدراسات والمقالات التي تحذر من الديمقراطية، وتربط بين حرية الراي والنزاعات داخل الدولة، وبين الديمقراطية وعرقلة العمل الحكومي. ومن يتابع على سبيل المثال المقالات التي تنشر في الصحافة الكويتية او الصحف في دول الخليج يلاحظ كمية الاتهامات التي توجه الى الديمقراطية او مجلس الامة بصفته المعرقل الرئيسي للتنمية.

فكل ممارسة من الاسئلة البرلمانية الى استجواب الوزراء الى النقاشات الحادة الى تقارير اللجان يتم وصفها بالعدائية وعرقلة الديمقراطية وعدم التعاون مع الحكومة، وانها السبب وراء تعثر التنمية، وتوقف المشاريع، ونزيف الميزانية العامة، وسلة جاهزة من الاتهامات.

والنتيجة التي ترغب منظومة السلطة التقليدية في الوصول اليها باختصار هي اقناع الشعوب الخليجية وقبلها القوى والمنظمات الدولية بان الشعوب الخليجية لا تصلح للديمقراطية، وانه كلما خففنا من الديمقراطية زادت فرص النمو الاقتصادي وبناء الدولة والتقدم، ويدعم حجتهم واقع دول الخليج القائم.

لكن من الواضح ان كثافة تدفق المعلومات حول الدمقرطة والاصلاح والحقوق ومكافحة الفساد والنظم الحديثة وغيرها من قيم المشاركة، تجعل من شعوب الخليج تواقة الى ان تعيش هذه اللحظة وتتنفس هذه المفاهيم.

ومن جهة اخرى فان قدرة التجربة الكويتية على تجاوز عثرات الفساد والجمع بين النظام الديمقراطي وتطور مفاهيم الحقوق والحريات وتحقيق تقدم في مشروع التنمية في البلاد، من شأنه ان يعزز التجربة الديمقراطية في الخليج ويدفع نحو تعميمها.

وفقا لما سبق فان المحافظة على الديمقراطية وتطوير مسيرتها في المنطقة تحفل بالكثير من الصعوبات. فهل تنجح منظومة السلطة التقليدية من اقناع الشعوب بمخاطر الديمقراطية ام تنجح منظومة الضغط والحداثة من التقدم في مشروعها التوعوي وتعميم التجربة لنشهد ربيعا ديمقراطيا سلميا في دول الخليج؟