من البيئة يأتي الزعماء لا يبعثون من السماء

لماذا لا نستطيع الانطلاق إلى الأعلى وللأمام دون مرور بمرحلة الأطلال والركام؟

ما أكثر الذين تشغلهم المقارنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين أحوال بلدانهم وشعوبهم وبين بلدان العالم الآخر وشعوبه، وجميعهم توصلوا لنتائج متشابهة مفادها أننا نوع من البشر والآخرون بشر من نوع آخر، إلا أن المؤسف في الأمر أن تلك المقارنات والدراسات ليست وليدة اليوم، بل إنها تنحدر إلى قرون مضت.

وقد استراح حكام العرب وشعوبهم، لاجتهادات شيوخ السلطان وفتاواهم حول تخلف الأمة الإسلامية عامة، والعربية على وجه الخصوص، التي أنتجت قاعدتين لا ثالث لهما، الأولى: "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، والثانية: "كيفما تكونوا يولى عليكم"، وكفى، والصلاة والسلام على من أصطفى.

إن هؤلاء الشيوخ أنفسهم وأمثالهم، هم الذين لم يثبت عنهم يوماً، محاربتهم لظلم الحكام، ولا صدر عنهم على سبيل رفع العتب، مُجرد انتقاد خفيف للحاكم، يرون أن المشكلة تكمن في الشعوب وليس حكامهم، وهم نفس الشيوخ أيضاً الذين حرموا الخروج على الحاكم الظالم أو الفاسد، إن ثقافة الخضوع للحاكم تلك، لم تكن موجودة في أوروبا ولا أميركا، رغم ما كان للكنيسة من حظوة سياسية في قرن من القرون، ولكنها لم تكن تمنع الناس من الجأر بالشكوى، والمطالبة بالحرية.

إن الحرية هي التي أدت بشعوب الغرب إلى بلوغ ما بلغوا من تقدم ورقي وازدهار، فحين تمتعوا بحريتهم بعد دماء سالت، وعمارة تهدمت، وأجيال تبدلت، وكوارث تحققت، اتفق الجميع على مبدأ واحد وهو: "حين نخرج من بين الأطلال والركام فلا يكون خروجنا إلا الأعلى وإلى الأمام".

هذا المبدأ كان هو الشغل الشاغل لشعوب وحكومات الغرب، من هنا كانت البداية، فتبارى الجميع بمختلف توجهاته الفكرية والعقائدية والسياسية إلى بناء الوطن الذي هو ملك للجميع، على قواعد سليمة راسخة، لا يُسمح لأحد مهما كانت صفته أن يبدل فيها أو يعُدل، كما لم يُسمح للمصلحة الشخصية أن تسود مطلقاً بأي صورة من الصور، فأمام الوطن تُطأطأ الهامات، وتتلاشى الصفات، وتتواضع الشخصيات.

ويحكي لنا التاريخ في جانبه المظلم، عن ثلاثة مجرمين، هم: هتلر وموسوليني وستالين. كانوا رموزًا للنازية والفاشية والديكتاتورية، اجتمعوا على الشر، وتسببوا بسياستهم - التي يحاكيها معظم زعماء بلدان العالم المنكوب المعروف بالثالث - في قتل ملايين الأشخاص من مواطنيهم، ومواطني البلدان الأخرى. ومثلما اتفق الثلاثة على الشر، جمعتهم نهاية مأساوية درامية، لم تكن لتخطئهم جراء طغيانهم واحتقارهم لشعوبهم وللإنسانية، وذات النهاية بالتأكيد لن تُخطيء من يسير على هداهم في عالم اليوم.

فأين نحن من ذلك؟ ولماذا لا نستطيع الانطلاق إلى الأعلى وللأمام دون مرور بمرحلة الأطلال والركام؟

للأسف إن كل الدلائل تشير إلى أن من بيدهم السلطة يستدعون بإصرار الكارثة، ويتجاهلون أو يجهلون أن من يسير في الطريق الموصوف، لن يصل إلا إلى المصير المعروف، ومع أن وسائل البحث والتقصي والاطلاع على المعلومات بمختلف أنواعها، بلغت من التقدم ما يجعل الاستفادة من تجارب الآخرين فرصة سانحة، إلا أن سوء الحظ يلازم الشعوب التي نشأت وترعرعت وتعيش في بيئة من السيطرة والقهر والديكتاتورية، بيئة تُنبذ أي تجارب مثمرة سوية، وتجتث أي تطلع إلى الحرية لتستبدلها بالطاعة العمياء والعبودية.

تلك البيئة الملوثة الموبوءة، لم ينتج عنها إلا ملايين المنافقين، وجيوشاً من الفاسدين، الذين تضخمت ذواتهم، وعلت مصالحهم الشخصية فوق مصلحة الوطن، ومع غياب المبادئ القويمة، والمُثل السليمة، والأخلاق المستقيمة، تداعى الانتماء، وتهاوى الحرص على العمل، وخبئت الرغبة في البناء، وتلاشى الأمل في البقاء، وسادت الفردية، وتعاظمت الأنانية، فراغ البصر إلى واهب الرزق وباسط الاطمئنان، الزعيم الأوحد الذي بيده الحكم والسلطان.

ربما يجد البعض في العبارة الأخيرة ما يستدعي المراجعة، فالله سبحانه وتعالى هو واهب الحياة والرزق، وهو وحده الذي يملك للإنسان النفع والضر، وتلك حقيقة لا مراء فيها ولا خلاف، ولكنني هنا لا أتحدث عن المسلمات والغيبيات بقدر ما أستند إلى الوقائع والمحددات، فقد خلقنا الله، وألقى بنا بين مطرقة إبليس، وسندان كل رئيس، وكلاهما لديه من وسائل الانتصار ما يجعلنا نقف بينهما ضائعون، فإبليس له من القدرات التعجيزية ما تجعله يخترق دمائنا ونفوسنا، والرئيس لديه من وسائل القوة والقهر التي يسيطر بها على عقولنا وأجسادنا، ونحن لا حول لنا ولا قوة، وكم من دعوات لهجت بها أرواحنا قبل ألسنتنا، وما زالت قدراتنا البشرية المحدودة قاصرة عن إيجاد موطئ قدم آمن بين إبليس وكل رئيس.

لا يستطيع أحد إنكار أننا نمر في أسوأ مراحل وجودنا، ورغم ذلك، أكتفى حكامنا بالتغني بالماضي وما كان فيه، وأشغلونا بقشور الحاضر والاستمتاع بأيامه ولياليه، وكفوا أبصارهم عن المستقبل وما يخفيه.

فإلى أين يذهبون بنا؟ وكم من الوقت تحتاج الأمة للحاق بالحياة الطبيعية المضيئة بنور الحرية؟