
الإنتلجنسيا من قلب الطبقة المتوسطة الى فضاء الثورة
يرى فرانسيس فوكوياما أن كتاب صمويل هنتنغتون "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة" يشكل المحاولة الأخيرة الجادة لإنتاج نظرية كبرى في التغيير السياسي ويقول "منذ ذلك الحين، (يقصد صدور الكتاب عام 1968) وجدت نظريات وسط، مفيدة نسبيا، عن قضايا مثل التحولات الديمقراطية والهندسة المؤسسة، وعن مناطق جغرافية محددة، وكذلك عن نماذج رياضية أقل فائدة نوعا ما، تولدت عن اتجاه الاختيار العقلاني في العلوم السياسية".
ويضيف "لعل كل النظريات الكبرى محكوم عليها بالفشل في النهاية بسبب التعقيد الكامن وراء هذا الموضوع، أو لتغير الظروف بمرور الوقت، أو لعل المشكلة ببساطة هي عدم وجود العديد من المفكرين الذين يتمتعون بقدرة هنتنغتون وبصيرته وطموحه، ممن يمكنهم انتاج كتاب له هذا النطاق وفي هذه الأثناء سيتوجب علينا الاقتناع بأن هذا العمل الكلاسيكي سيبقى متاحا لأجيال مستقبلية من المهتمين بمشكلة التطور السياسي".
الكتاب الذي ترجمه الكاتب والمترجم حسام نايل وصدر عن دار التنوير يهتم بالاستقرار السياسي حيث ينصب جهد هنتنغتون على سبر الشروط والأوضاع التي في ظلها تمر المجتمعات بتغيير اجتماعي واقتصادي سريع يقلب الأوضاع والتي تتيح تحقيق هذا التغيير بدرجة ما، فيناقش ويحلل رؤاه وأفكاره ويضرب الأمثلة والنماذج سواء تعلقت هذه النماذج والأمثلة بدول شرق أوسطية أو غربية أو أميركية، ذلك في سبعة فصول تنطلق من النظام السياسي ومؤسساته وعمليات التحديث والاستقرار السياسي عبر الكيانات المدنية والبريتورية، ليدخل بعدها إلى التحديث السياسي: أميركا مقابل أوروبا، ثم التغيير السياسي في الكيانات السياسية التقليدية، مرورا بالثورة والنظام السياسي، والإصلاح والتغيير السياسي، وينتهي بدور الأحزاب في عملية الاصلاح والاستقرار السياسي.
النخبة المثقفة في الطبقة الوسطى هي النخبة الثورية لكن ليس بمقدورها إشعال ثورة بمفردها
وهنا نتوقف على جانب من رؤية هنتنغتون للطبقة الوسطى حيث يقول "ان صورة الطبقة الوسطى بوصفها عنصرا ثوريا، تصطدم بالصورة النمطية عن الطبقة الوسطى بوصفها حجر زاوية الاستقرار السياسي في الكيان السياسي الحديث وتشبه علاقة الطبقة الوسطى بالاستقرار علاقة الثراء بالاستقرار فالطبقة الوسطى الكبيرة، كالثراء الواسع، قوة معتدلة في السياسة لكن تكوين الطبقة الوسطى، كالنمو الاقتصادي، حدث يزعزع الاستقرار إلى حد كبير، غالبا ويمكن تتبع تطور الطبقة الوسطى من خلال عدة مراحل، عناصر الطبقة الوسطى التي تظهر أولا في المشهد الاجتماعي هي عادة المثقفين من ذوي الجذور التقليدية، ولكن قيمهم حديثة ثم يعقبهم التكاثر التدريجي للموظفين المدنيين وضباط الجيش والمعلمين ورجال القانون والمهندسين والفنيين ورجال الأعمال والمديرين عناصر الطبقة الوسطى التي تظهر أولا هي العناصر الأكثر ثورية، فكلما تضخمت الطبقة الوسطى تصبح أكثر محافظة كل هذه المجموعات أو معظمها ربما يلعب دورا ثوريا أحيانا، لكن أكثرها نزوعا إلى المعارضة والعنف والثورة هي الشرائح غير البيروقراطية وغير التجارية ومن بين كل شرائح الطبقة الوسطى، المثقفون هم الأميل إلى المعارضة والعنف والثورة
ويشير إلى أن المدينة مركز المعارضة داخل البلد والطبقة الوسطى هي بؤرة المعارضة داخل المدينة، والنخبة المثقفة (الإنتلجنسيا) هي مجموعة المعارضة الأنشط داخل الطبقة الوسطى؛ والطلبة هم الثوريون الأكثر تلاحما وفاعلية داخل النخبة المثقفة ولا يعني ذلك بالضرورة أن معظم الطلبة كبقية معظم السكان ليسوا فاترين (لامبالين) سياسيا، بل يعني أن المجموعة الأنشط المسيطرة في الكيانات الطلابية، في معظم البلاد الجاري تحديثها تناهض النظام الحاكم لذا توجد في الجامعة معارضة نظام الحكم الأثبت والأكثر تطرفا والأعند.
ويوضح هنتنغتون أن النخبة المثقفة (الإنتلجنسيا) في الطبقة الوسطى هي النخبة الثورية، لكن ليس بمقدورها إشعال ثورة بمفردها فهي تستطيع وهي المحصورة داخل المدينة في معارضة نظام الحكم؛ وتستطيع أيضا التحريض على أعمال الشغب والمظاهرات، وبمقدورها أحيانا تحريك دعم لها من الطبقة العاملة والبروليتاريا الرثة ولو تمكنت من اكتساب تعاون بعض العناصر داخل الجيش أيضا، فبمقدورها إسقاط نظام الحكم لكن إطاحة المجموعات الحضرية بنظام الحكم لا تعني الإطاحة بالنظام السياسي والاجتماعي، بل تعني تغييرا داخل النظام، وليس تغيير النظام وباستثناء حالات نادرة، لا يعني ذلك بشارة ببدء بناء ثورية للمجتمع، وباختصار مجموعات المعارضة في حد ذاتها داخل المدينة يمكنها الإطاحة بالأنظمة، لكنها لا تستطيع إشعال ثورة، لأن الثورة تتطلب مشاركة إيجابية من المجموعات الريفية لذا يصبح دور المجموعات المسيطرة في الريف هو العامل الحاسم الذي يحدد استقرار نظام الحكم أو هشاشته فلو كان الريف يؤيد النظام سيتمكن النظام من عزل المعارضة في المناطق الحضرية واحتوائها وعلى فرض ميل نظام الحكم المجموعات الحضرية المسيطرة، فعليه حتى النظام الذي يأتي عقب إطاحة هذه المجموعات بالنظام السابق لن يجد مصادر تأييد له في الريف لو أراد تجنب مصير سابقه.

ويلفت في رؤيته للتحالف الثوري والنزعة القومية، إلى أن "النخبة المثقفة (الانتلجنسيا) في الطبقة الوسطى الحضرية هي المجموعة الثورية الأثبت في المجتمعات الجاري تحديثها وكي تشعل النخبة المثقفة ثورة، عليها أن تتحالف وأحد مصادر تحالفها المحتمل هو البروليتاريا الرثة في المدن، التي لم تكن على مدى سنوات عديدة مجموعة ثورية فعلا لكن من المرجح أن تزيد ميولها الثورة؛ ومن ثم عند نقطة ما في معظم البلاد الجاري تحديثها، يشكل التحالف بين حي الفقراء وبين الطلبة وقاطني الأحياء الفقيرة، تحديا كبير للاستقرار السياسي لكن الشروط اللازمة لنجاح هذا الاتحاد الثوري تكمن بقدر ما في شروط اخفاقه فلو ظل المجتمع زراعيا أساسا، فقد تتمكن الإنتلجنسيا وفقراء المدن من الإطاحة بنظام الحكم، لكنهما لن يتمكنا من هدم البناء الاجتماعي الأساسي في المجتمع ما ظل فعلهم محصورا في المناطق الحضرية إذ سيظل عليهم أن يضموا الفلاحين إلى تحالفهم لإحداث تغيير جوهري في البناء الاجتماعي أما لو وصل التحضر (التمدين) إلى مدى يسمح بتركيز الكثير من السكان في مدينة واحدة أو بضع مدن كبيرة، فيستطيع الفعل الثوري في المناطق الحضرية إحداث تحويل جوهري في المجتمع.
ويشير هنتنغتون إلى أن ندرة احتمال الثورة ترجع في جانب كبير منها إلى صعوبات الفعل المتوازي بين الإنتلجنسيا والفلاحين فالفجوة بين المدينة والريف هي صلب موضوع السياسة في المجتمعات الجاري تحديثها والصعوبات التي تواجهها أنظمة الحكم لسد هذه الفجوة تشبه تقريبا الصعوبات التي يواجهها الثوار لسدها تنشأ العقبات الحائلة دون تكوين التحالف الثوري من الفروق في الخلفية والمنظورات والأهداف بين المجموعتين (الحضرية والريفية) فالمسافة الاجتماعية بين الطبقة العليا أو الوسطى الحضرية، والنخبة المثقفة الكوزموليتانية المتعلمة والمتغربنه من ناحية، وبين الفلاحين في المناطق الزراعية المتخلفين والأميين والتقليديين ثقافيا والقرووين من ناحية أخرى، هي تقريبا فجوة كبيرة كالفجوة التي يمكن تخيلها بين أي مجموعتين اجتماعيتين فمشكلات التواصل والفهم بينهما هائلة فهما يتحدثان لغتين مختلفتين بكل معنى الكلمة وفرص عدم الثقة وسوء الفهم بينهما هائلة ويجب التغلب على كل الظنون الطبيعية التي تساور الفلاح العملي المتعلق بالأرض في قاطن المدينة، وعلى ظنون قاطن المدينة في الفلاح الريفي ضيق الأفق.
ويتابع إن "الاختلاف بين أهداف الفلاحين والإنتلجنسيا، وتناقضها غالبا مطالب الفلاحين عينية بل وتتعلق أيضا بإعادة التوزيع، وهو ما يجعل الفلاحين ثوريين أما مطالب الإنتلجنسيا فتميل إلى التجريد والانفتاح، وهو ما يجعل الثوار من المثقفين كما تختلف الاهتمامات الجوهرية لدى المجموعتين اختلافا كبيرا فالإنتلجنسيا في المناطق الحضرية تهتم عادة بالحقوق السياسية أكثر من اهتمامها بالأهداف الاقتصادية في المقابل الفلاحون مبدئيا وأساسا بالظروف المادية كإيجارية الأرض والضرائب والأسعار".
تستطيع الإنتلجنسيا التحالف مع الفلاحين الثوريين، غير انها لا تستطيع خلق فلاحين ثوريين
ويؤكد هنتنغتون أن الفروق في الحراك والتنوير لدى المجموعتين تفرض على المثقف مسئولية أساسية عن المبادرة إلى إنشاء تحالف ثوري لكن الجهود الواعية التي تبذلها النخبة المثقفة لتحريض الفلاحين لا تلقى سوى نجاح ضيئل تفشل جهود المثقفين لتحريض الفلاحين دائما تقريبا ما لم تكن ظروف الفلاحين الاجتماعية والاقتصادية تمنحهم دوافع مادية (ملموسة) للثورة تستطيع الإنتلجنسيا التحالف مع الفلاحين الثوريين، لكنها لا تستطيع خلق فلاحين ثوريين.
ويوضح أن الفروق في الخلفية والمنظور والهدف بين الإنتلجنسيا والفلاحين تجعل الثورة غير محتملة الحدوث، إن لم تكن مستحيلة، عند غياب قضية مشتركة أخرى يدفع إليها حافز آخر ومع ذلك، تندلع الثورات القضية المشتركة التي تنتج التحالف الثوري أو التوازي الثوري هي عادة النزعة القومية؛ والحافز هو عادة عدو أجنبي من الممكن أن توجد حرب استقلال قومية ولا تكون ثورة اجتماعية كما حدث في الولايات المتحدة لكن يستحيل أن توجد ثورة اجتماعية ولا تكون ثورة قومية فمن المعتاد أن تحرك عملية اجتذاب المشاعر القومية عددا كبيرا من الشعب إلى الاهتمام بالسياسة فتقدم قاعدة للتعاون بين الإنتلجنسيا الحضرية وجماهير الفلاحين.
ويرى هنتنغتون أن التطوير السياسي يعني إنشاء مصالح عامة ذات طابع مؤسسي ولا شيء يدعو إلى هذا بالقدر الأكبر سوى ملية ثورية المجتمع القائم قبل الثورة إحساسه بالصالح العام ضئيل عادة فهو يتميز باضمحلال المؤسسات السياسية وانهيارها عادة، وتشرذم الكيان السياسي (الدولة) وإبراز المطالب المحلية والإقليمية، والسعي وراء أهداف شخصية، وسيطرة الولاء للأسرة وغيرها من التجمعات المباشرة. الثورة تهدم النظام الاجتماعي القديم بطبقاته وتعدديته وولاءاته الضيقة فتظهر مصادر جديدة أعم للأخلاقية والشرعية وهي مصادر قومية وطنية بدلا من الضيقة الأفق، وسياسية بدلا من الاجتماعية، وثورية بدلا من التقليدية فالشعارات وسحرها، وربما أيديولوجية الثورة، توفر معيارا جديدا للولاء السياسي، الولاء للثورة والصياغة المسيطرة لأهدافها يحلان محل الولاء للتجمعات الاجتماعية الأضيق أفقا والتقليدية في المجتمع القديم فالمصلحة العامة في النظام القديم فالمصلحة العامة في النظام القديم قد انحطت إلى خليط مشوش من المصالح الضيقة المتضاربة أما المصلحة العامة في النظام الجديد فهي مصلحة الثورة هكذا تعني الثورة تجديدا أخلاقيا، فطرائق السلوك وأنماطه المقبولة في المجتمع الفاسد السابق يحل محلها أساليب إسبارطية وبيورتيانية (تقشفية وطهرانية) للغاية.
ويعتقد هنتنغتون أن مشكلة الأولويات والخيارات فيما بين مختلف أنواع الإصلاح أخطر وأهم عند الإصلاحي منها عند الثوري، يستهدف الثوري أولا توسيع نطاق المشاركة السياسية، حتى يوظف القوى الناتجة ذات الصلة السياسية، في استحداث تغييرات في البناء الاجتماعي والاقتصادي. أما المحافظ فيعارض الإصلاح الاجتماعي الاقتصادي وتوسيع نطاق المشاركة السياسية في آن معا ويجب على الاصلاحي الموازنة بين الهدفين كليهما الاجراءات التي تعزز المساواة السياسية تقتضي بسط السلطة وليس هذان الهدفان متناقضين بطبيعتهما؛ لكن التركيز الكبير للسلطة في مؤسسات عاجزة بطبيعتها عن بسط السلطة يؤدي بالنظام السياسي إلى طريق مسدود (أعمى)، كما تشير إلى ذلك تجارب الملكيات التحديثية لذا يجب على الإصلاحي الموازنة بين التغييرات في البناء الاجتماعي الاقتصادي والتغييرات في المؤسسات السياسية، والمزاوجة بينهما بطريقة لا تجعل أحدهما يعوق الآخر القيادة والمؤسسات التي تتيح نوعا من الإصلاح ربما تعجز عن إتاحة الفرصة لنوع آخر.