سوريا من دولة ممانعة إلى دولة مطيعة
عبر سنوات الحرب الأهلية السورية لم يتوقف الطيران الإسرائيلي عن الإغارة على مواقع عسكرية داخل الأراضي السورية. مرة لأن إيران تتخذ من تلك المواقع مخازن لأسلحتها التي تستعمل في سوريا أو هي في طريقها إلى لبنان، وأخرى لأن تلك المواقع تمثل تجمعات لحزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية ومرة ثالثة لشعور إسرائيل بأن سوريا ليس من حقها أن تسعى إلى تطوير واقعها العلمي وهو ما يشير اليه الإصرار على ضرب مركز البحوث العلمية شمال دمشق مرات ومرات كما لو أنه مفاعل نووي قد شارف على صنع القنبلة الذرية. وإذا كانت إسرائيل قد فعلت ما فعلته وهي تعرف يومها أن النظام السياسي سيردد المعزوفة التقليدية "سنرد في الزمان والمكان المناسبين ولن يجرنا العدو إلى منازلة هي ليست في صالحنا" فإنها في الوقت نفسه كانت على ثقة بأن إيران هي الأخرى ستعزف عن الرد وستوكل تلك المهمة لحسن نصر الله الذي سيضحي بعدد من اللبنانيين لإنجازها.
المشكلة أن كل شيء تغير عل الأرض في سوريا وانقلبت المعادلات القديمة وكُسرت المقاييس التقليدية ولم يعد الأسد يحكم سوريا ولا إيران موجودة على التراب السوري من خلال هيمنة وكيلها حزب الله على عدد من المدن هناك غير أن إسرائيل لم تتوقف طائراتها على الأراضي السورية، مطارات ومعسكرات ومراكز بحوث ومخازن أسلحة. الأدهى من ذلك أن القوات الإسرائيلية وسعت من تمددها داخل الأراض السورية، ربما تعبيرا عن رغبتها في مشاركة الشعب السوري يتحول أبي محمد الجولاني إلى أحمد الشرع وانتقاله من قفص الإرهاب الدولي إلى قصر الرئاسة السوري باعتباره الخلف المنتصر على السلف المهزوم. الفرق بين الإثنين أن المنتصر لم يعد يكرر معزوفة المهزوم عن زمان الرد ومكانه المناسبين. لا لشعوره بالحرج، بل لأنه يعرف جيدا أن إسرائيل التي لو لم توافق عليه لما كان رئيسا على السوريين تفعل ما تراه مناسبا لها وأنه لا يملك الإرادة في منعها أما القوة فإنه يدخرها لسد الفراغات الأمنية ومعالجة الأزمات عن طريق تفخيخها.
ليس صحيحا القول إن إسرائيل كانت قد تحولت إلى ثور مجنون بعدما حدث في السابع من أكتوبر 2023. ذلك صحيح على مستوى لجوئها إلى إبادة أهل غزة كونهم الحاضنة الشعبية ومصدر التمويل البشري لحركة حماس. غير أن تدمير حزب الله وإنهاء الوجود الإيراني في لبنان ومن ثم في سوريا تما بطريقة عقلانية غلب عليها طابع صفقات متداخلة الأطراف لتداخل المصالح. ليست الولايات المتحدة ولا إسرائيل وحدهما كانتا وراء ترحيل الأسد من دمشق ونقله إلى موسكو ومن ثم فتح دمشق أمام أيدي مقاتلي هيئة تحرير الشام متعددي اللغات. كانت روسيا طرفا مهما وقويا في تلك الصفقة ومن المؤكد أن إيران كانت طرفا فاعلا. ذلك لأنها نجحت في وقت قياسي في نقل مقاتليها من منتسبي ميليشياتها "فاطميون وزينبيون" وسواهم إلى الأراضي العراقية. لقد أدركت إيران يومها أن القرار قد أتخذ وأن كل شيء قد إنتهى فقررت أن تكون هزيمتها في سوريا بداية لصفحة جديدة مع الإدارة الأميركية ومن خلالها مع إسرائيل التي لم تكن ولن تكون معنية بما تقوله إيران.
وكما يبدو فإن إسرائيل لا تزال غير مقتنعة بإن النظام السوري الجديد سيكون مطيعا إلا إذا جردته من كل العوامل التي تساعده على التمرد وممارسة الدور الخطابي التحريضي الذي كان النظام السابق يمارسه. ستكون سوريا الأخرى مدرسة للخنوع والطاعة. بمعنى أن مدرسة المقاومة والممانعة القديمة لن يتم السماح باستعادتها حتى ولو على سبيل الكذب والاحتيال والإبتزاز. تتلقى سوريا اليوم الضربات لا من أجل تنعيم مواقفها فتلك المواقف لا قيمة لها، بل من أجل إنهاء أي مستقبل للتفكير بإرادة وطنية مستقلة وحرة. كان بشار لأسد قد حكم سوريا بقوة الأبد التي اخترعها والده، ولكن وهم حكم سوريا إلى يوم القيامة يستمد قوته من محاولة استرضاء إسرائيل وتمثيل دور الحمل الوديع الذي لن يفكر حتى في إستعادة زمن الرد المناسب ومكانه. لذلك فإن إسرائيل لم يعد في أجندتها المرحلية سوى أن تصنع من سوريا دولة منزوعة السلاح. أما حكام سوريا الجدد فلم يعد يهمهم سوى السلاح الذي يمكنهم من فرض سلطتهم على الشعب السوري وهو سلاح لن تفكر إسرائيل في تدميره ذلك لأنه يخدمها في تحويل سوريا إلى بلد مطيع.