كان السينمائي: بين بريق الفن وسلطة السياسة
يُعتبر مهرجان كان السينمائي واحدًا من أبرز المحافل الثقافية في عالم السينما، لكن هل هو فعلاً منصة للإبداع الفني فقط؟ أم أنه بات يخضع لتوجهات سياسية وأيديولوجية تفرض نفسها بشكل متزايد على الجوائز؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب إعادة النظر في ممارسات المهرجان في السنوات الأخيرة، والتفكير في كيفية تأثير السياسة على الاختيارات الفنية، ولا سيما في قضايا مثل حقوق الإنسان، الجندر، والمثلية، والتسوية، والعنصرية...
ويحتل هذا الحفل السنوي مكانة خاصة في عقول صُنّاع السينما وعشاقها، ولكنه لا يُعدّ منصةً محايدة أو غير متأثرة بالسياسات الثقافية الغربية. ففي السنوات الأخيرة أصبح من الواضح أن المعايير التي يتم بها اختيار الفائزين لا تتسم دائمًا بالحيادية، فبينما يتم تصوير المهرجان على أنه مكان للاحتفاء بالسينما ذات الجودة الفنية الاستثنائية، إلا أن ما يعزز هيمنته في الساحة الدولية هو أيضًا فرضه لنسق ثقافي معين، يتماشى مع قيم وأيديولوجيات تهيمن على الخطاب الغربي.
تلك الأيديولوجيات تجد طريقها إلى الجوائز من خلال تمكين الأفلام التي تتبنى قضايا سياسية، اجتماعية أو ثقافية قريبة من مواقف أوروبا الغربية، مثل القضايا المرتبطة بالجندر، والمثلية الجنسية، وهو ما يجعل البعض يتساءل إن كان المهرجان فعلاً يشجع على الإبداع السينمائي، أم أن هناك لعبة ثقافية تقود إلى تكريس معايير فنية مشروطة سياسيًا.
إن التصعيد في دعم قضايا مثل المثلية والجندر قد لا يعكس بالضرورة تطورًا إيجابيًا في السينما كفن، بقدر ما يعكس استراتيجية سياسية محكومة بالصراع بين الثقافات، إذ يُراد فرض نموذج ثقافي يعبر عن الانفتاح الغربي. وهذه الحركات السينمائية تُحتفى بها لكونها تُمثل، بشكل أو بآخر، ترجمة فنية لسياسات دولية تسعى لتمكين هذه القيم الثقافية في بقاع مختلفة من العالم.
وأصبح من الواضح أن المهرجان، وإن كان لا يعبر عن موقف حكومي مباشر، إلا أنه يعمل كأداة دبلوماسية ناعمة، فالفيلم الذي يروج لقيم معينة يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببعض القوى الغربية الكبرى، ويمكن أن يُرى ذلك في الجوائز التي تُمنح لأفلام تحمل رسائل تحاكي قضايا تحظى باهتمام كبير في الساحة السياسية الغربية.
ورغم محاولات مهرجان كان تقديم نفسه كمجال مفتوح للتنوع الثقافي والفني، فإن هناك ميولًا واضحة لرفض الأفلام التي تتعارض مع بعض القيم الغربية المهيمنة.
ميول واضحة لرفض افلام تتعارض مع بعض القيم الغربية المهيمنة
فالفيلم العربي الأصيل الذي يُسلّط الضوء على قوة الثقافة العربية وهيمنة الثقافة الدخيلة يجد صعوبة في الحصول على التقدير نفسه الذي يحصل عليه فيلم يتناول قضايا تسيء للعرب والعروبة، رغم أن العالم يُطالب بإنصاف القضية الفلسطينية مثلًا أو سوريا أو العراق أو أفغانستان أو لبنان، إلا أن مهرجان كان لا يبدو حريصًا على منح هذه القضايا الصوت الأوسع في مسابقاته الرئيسية. فغالبًا ما يتم تقديم هذه الأفلام في أطر ثانوية أو هامشية أو لا تقبل أساسًا، أو يُكتفى بإشارات رمزية لها، من دون أن تكون في بؤرة الاهتمام.
ويضع مهرجان كان سينما المؤلف في قلب رؤيته، حينما يُمنح المخرجون سلطة كبيرة على أعمالهم، ويُعتبرون كالمبدعين الرئيسيين في العملية السينمائية. بينما يمكننا أن نرى أن هذا التوجه يتحول أحيانًا إلى فخ يتسلط فيه بعض المخرجين الغربيين على توجهات سينمائية مهيمنة تُبرز موضوعات تخدم أجندات ثقافية معينة.
فالأفلام التي تتناول قضايا الهوية والهويات الجندرية تصبح محط اهتمام أكبر، بينما يُنظر إلى الأفلام التي تتناول موضوعات أخرى، مثل السياسة أو الاقتصاد بطريقة مباشرة، على أنها أقل أهمية من الناحية الفنية.
ويعتمد مهرجان كان على تكريس صورة الآخر ضمن سياق ثقافي محدد، فتصبح الأفلام التي تُظهر معاناة الإنسان في الجنوب العالمي، خاصة في إفريقيا، أمريكا اللاتينية، أو العالم العربي، مشهدًا عاطفيًا يُعزز من صورة مأساة الضحية.
ولكن هذا التقديم يأتي بشكل غير موازٍ مع ما يُمكن أن يُعتبر خطابًا ثقافيًا حقيقيًا وجادًا، إذ كثيرًا ما يتم تجريد هذه الأفلام من عمقها السياسي أو الاجتماعي، لتحويلها إلى مجرد صور رمزية عن المعاناة، التي تُستهلَك في سياق غربي. وفي هذه الحالة يضع المهرجان نفسه في موقع حكم عالمي على فنون السينما، ويتبنى في كثير من الأحيان قيماً تنسجم مع الغرب ولا تأخذ بالاعتبار السياقات الثقافية الأصيلة لهذه الأفلام.
ولنكن صريحين، أفلام السينما العربية التي تسيء أحكامها تُقبل، والتي تحتفي أحكامها وسياستها غالبًا ما تُستبعد من جوائز كان أو تُمنح في إطارات هامشية، والسبب أن بعض المواضيع السياسية لا تنسجم مع المناخ الفني والسياسي الذي يُروج له في المهرجان. فالموقف الصريح ضد الاحتلال الإسرائيلي مثلًا، والذي يُعبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني، غالبًا ما يتعرض للحجب أو التخفيف، في حين يتم منح الجوائز لأفلام تحمل رسائل غامضة لا تشخص المسؤولية بشكل مباشر.
ويُنظر إلى هذه الممارسات باعتبارها خضوعًا للضغوطات السياسية التي تسعى إلى تجنب المساءلة الفعلية بشأن قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك قضية فلسطين.
ويمكن الحديث هنا أيضًا عن دبلوماسية الجوائز، أي تُمنح الجوائز استنادًا إلى الاعتبارات السياسية والثقافية. فمن غير المستغرب أن الأفلام التي تتناول قضايا مثل المساواة والنسوية، وحقوق المثليين، أو التغيرات الاجتماعية المُتسارعة في الغرب، تتلقى تقديرًا أكبر مقارنة بالأفلام التي تطرح قضايا اجتماعية أو سياسية في الجنوب العالمي، بينما هذا يثير تساؤلًا: هل تظل السينما وفية لجوهرها كفن، أم أنها تحولت إلى مجرد أداة دعاية تعكس مصالح ثقافية وسياسية معينة؟
فلا يمكننا أن ننكر أن مهرجان كان يبقى واحدًا من أكثر المهرجانات السينمائية تأثيرًا في العالم، ولكن هل هو مهرجان فن بحت، أم أن السياسة والأيديولوجيا أصبحتا تتحكمان في اختياراته؟ حقيقة الأمر أن الكثير من الأفلام التي فازت بالجوائز في السنوات الأخيرة قد لا تكون هي الأفضل فنيًا، لكنها تجسد بعض القيم السائدة في الغرب وتروج لها، وهذا يعد تحولًا في مفهوم الجوائز السينمائية. فإذا كان مهرجان كان يسعى إلى الحفاظ على مصداقيته كأهم مهرجان سينمائي في العالم، عليه أن يتعامل مع هذه القضايا بموضوعية، دون الانحياز لطرف على حساب آخر، وأن يحافظ على جوهره كمنصة سينمائية بحتة دون التورط في معركة الأيديولوجيات.