الحاجة إلى مشروع مصري إقليمي

مع التحولات الجارية في المنطقة بحث كثيرون عن موقف مصر، ولماذا لا تنخرط في ما ظهر من بوادر مشروع إقليمي سوف تلعب فيه دول الخليج دورا محوريا، وفقا لتوازنات القوى الاقتصادية المؤثرة.

تشير التطورات الإقليمية الراهنة إلى حالة من الغموض تعيشها منطقة الشرق الأوسط، وإلى رغبة إسرائيلية عارمة في إعادة هندسة المنطقة بما يتناسب مع مصالحها وطموحاتها الإستراتيجية وتبنّي مشروع كبير يحقق أهدافها خلال الفترة المقبلة، وأيضا إلى إخفاقات متلاحقة تلازم المشروع الإيراني، الذي ظهرت ملامحه عقب اندلاع الثورة الإسلامية في طهران قبل نحو نصف قرن.

وأدت البراغماتية التركية ونجاح قيادتها في التكيف مع المستجدات الإقليمية والدولية إلى احتفاظها بمستوى عال من الجاهزية، وساعدتها مرونتها وإدخال تعديلات على رؤيتها الإسلاموية في أن تصبح لاعبا وعنصرا حاضرا ومؤثرا في المنطقة، وتملك أجندة أو مشروعا مفتوحا على معالم متباينة.

الملاحظ أن القوى الثلاث (إسرائيل وإيران وتركيا) جميعها غير عربية، وتريد التحكم في مقاليد منطقة تسكنها غالبية عربية، ربما تكون هذه الحالة قديمة، وتجذرت خلال العقود الخمسة الماضية، مع سقوط المشروعات القومية العربية، سواء تلك التي حملت شعلتها مصر الناصرية أو العراق وسوريا البعثيان. كما أن المشروع الرمزي الشعاراتي المتمثل في جامعة الدول العربية أصبح محل نقاش من زاويتي: الإصلاح وإعادة الهيكلة وتدوير منصب الأمين العام وتغيير دولة المقر، أو التفكير في بدائل إقليمية جديدة، ليس بالضرورة أن تكون عربية خالصة.

مع التحولات الجارية في المنطقة بحث كثيرون عن موقف مصر، ولماذا لا تنخرط في ما ظهر من بوادر مشروع إقليمي سوف تلعب فيه دول الخليج دورا محوريا، وفقا لتوازنات القوى الاقتصادية المؤثرة، وترتيبات يتم التفكير فيها بما يغير شكل الشرق الأوسط، ولا يصبح قوام المشروع المطروح منطلقا من أساس قومي وديني ومذهبي، أو تتقدم القاهرة وتملك مشروعا إقليميا واضحا، تتوافر فيه معطيات تتواءم مع الواقع العالمي، ولا تعيد إنتاج المشروع الذي تبناه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وفشل، وما خلقه من عداوات مع جهات عربية ودولية عديدة، أو تتبنى مشروعا شبيها بما سعى إليه الرئيس الراحل أنور السادات، واعتمد على الانكفاء على الذات.

لم تظهر مصر معالم اشتباك إيجابي مع ما تردد حول وجود مشروع عابر للقوميات والديانات، تكون فيه بعض دول الخليج العربي وإسرائيل طرفين حاسمين، وبدت تصرفاتها بعيدة عنه أو ممانعة له، وإن حرصت القاهرة على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع دول الخليج، ولم تسع إلى صدام واسع مع تل أبيب، وضبطت التوجهات مع الإدارة الأميركية الراعية لهذا المشروع، وتجنبت الصدام معها مباشرة.

أكدت تطورات كثيرة أن تأثير مصر تراجع في المنطقة، بحكم تغيرات متعددة، ويمكن أن يتراجع بشكل أكبر، إذا فضلت قيادتها عدم الانخراط في المشروع الظاهر الوحيد في المنطقة حتى الآن، وتؤيده واشنطن، وإذا كان الأمر كذلك، لماذا تغيب القاهرة، ولا تظهر ملامح اشتباك إيجابي معه، وربما على العكس، توجد مؤشرات رافضة أو متحفظة عليه، سببت لها حرجا مع حلفاء وأصدقاء قد يصبحون جزءا أساسيا فيه.

التفسير عندي يحمل شقين. الأول: أن المشروع الذي ترعاه الولايات المتحدة سوف يعيد فك وتركيب السبيكة الجيوسياسية الحالية في المنطقة، ويطوي صفحات سابقة بلا حلول ناجعة، وفي مقدمتها صفحة القضية الفلسطينية، التي تتمسك دول خليجية بضرورة إيجاد حل مناسب لها، لكن التطورات جارفة، وقد تفرض طقوسا معينة تؤدي إلى تجاوزها قسرا، وهو ما تعتقد القاهرة أنه لا يوفر أمنا في المنطقة أو استقرارا للمشروع نفسه، ناهيك عن أن مصر لن يكون لها دور مؤثر، فالتوازنات الجديدة تقوم على الاقتصاد، وهي فقيرة وتحتاج إلى مساعدات سخية، ما يعني أنها سوف تصبح تابعة لمجموعة أخرى قائدة.

والشق الثاني: مهما كانت درجة الضعف التي تعاني منها مصر، فطبيعتها التاريخية وكتلتها الصلبة، البشرية والعسكرية والجغرافية، ترفضان التسليم بما يُملى عليها من أي جهة، وإن قبلت ذلك أحيانا فلأسباب تكتيكية، سرعان ما تتحلل منها في أول محطة تتوافر فيها ظروف تساعدها على الرفض والتمرد، ما يجعلها تفضل النأي والاحتفاظ بمسافة شاسعة تفصلها عن الآخرين، وتخول لها التفكير بعمق في ما يمكن أن تقوم به.

وهذه حالة لا يجب أن تستغرق وقتا طويلا، لأنه سيتم تفسيرها بالعجز أو العزلة، وفي الحالتين تأبى الطبيعة المصرية أن توصف بأي من الصفتين، لأن فيهما موتها، وهو ما لم يحدث على مدار تاريخها القديم والمعاصر، فقد تمرض، لكنها لا تموت.

تقود هذه الاستنتاجات إلى فرضية لها ما يسندها من المعلومات من بعض المصادر المصرية، وهي أن القاهرة تنتظر استقرار الأوضاع في المنطقة، وهذا يستغرق بضع سنوات، وأي مشروع يمكن طرحه في خضم تطورات عاصفة لن يكون مجديا أو يستمع إليه أحد مهما كانت مكوناته، ولن يتم الإنصات له أو التفاعل معه بجدية، وربما يتم حرقه سياسيا قبل خروجه إلى النور، وهو ما تخشاه القاهرة، فوسط انتشار الصراعات والنزاعات تتوه مشروعات مهما علت قيمتها وامتلكت ما يعزز منطقيتها.

ومن الواضح أن مصر لجأت إلى الحذر والتريث اللذين فسرا أحيانا على أنهما يعكسان حيرة وارتباكا وعدم وجود ما تقدمه للمنطقة، وهو استنتاج صحيح إلى حد ما، لأن الدولة التي تواجه حدودا ملتهبة شرقا وغربا وجنوبا، وتتعرض لتهديدات إستراتيجية من جهة البحر الأحمر، ووجودية من جهة منابع نهر النيل، يصعب أن تفكر في طرح مشروع إقليمي أو تقديم فكرة تحظى باهتمام لافت.

تعمل مصر على التخلص من الأعباء الثقيلة الملقاة عل عاتقها خارجيا، وكان جل تركيز قيادتها خلال السنوات الماضية تثبيت مفاصل الأوضاع الداخلية، وتوفير أعلى درجة من الأمن والاستقرار للمجتمع، والحد من تضخم الأزمة الاقتصادية، علاوة على تحديث البنية الأساسية للمؤسسة العسكرية. وتعرض الرئيس عبدالفتاح السيسي لانتقادات كبيرة بسبب هذا التحديث، وهناك من اعتبر الإغداق على الجيش نوعا من الرفاهية المنبوذة، وعندما لاحت في الأفق معالم انفجار في المنطقة، راجع كثيرون انتقاداتهم، وبعد تحول الانفجار إلى واقع مرير على أكثر من مستوى، فهم هؤلاء الجدوى الحقيقية من وراء تسليح الجيش المصري.

هل هذا يعني أن مصر لن تملك مشروعا إقليميا؟

رغم ضخامة السؤال، وما قدم من تفسيرات سلبية سابقا، إلا أن الإجابة لا بد أن تملك القاهرة مشروعا، فعدم وجوده معناه حدوث تآكل كبير في الجسد المصري، وفي كل الأوقات التي انكفأت فيها الدولة على ذاتها لم تكن في أفضل حال، وتسابقت قوى خارجية على المزيد من النيل منها، وخسرت الكثير من مقوماتها الحيوية والكامنة في عبقرية مكانها، من هنا لن تستطيع أن تكون بعيدة وقتا طويلا عن تفاعلات تجري على مرمى حجر منها، وإن حسبها البعض تراجعت أو عزلت أو تقوقعت حول ذاتها فقط، فمصر من الدول التي يبدأ أمنها القومي من الخارج.