نبوءة مصر لما يجري في المنطقة
كلما فكّر مراقب في موقف مصر ممّا يجري في المنطقة من تطورت متلاحقة، يشعر وكأن قيادتها كانت على علم بها، أو لديها توقعات وتقديرات دقيقة، تشبه النبوءة.
ولا أنسى في أحد مشاهد المسلسل المصري "هجمة مرتدة" في سياق رصد مقدمات ثورة يناير التي أسقطت نظام الرئيس حسني مبارك عام 2011 وما تلاها من أحداث، جملة لفك لغز أو أشبه بمفتاح لفهم كثير ممّا يدور حاليا، قالها أحد الضباط الكبار في جهاز المخابرات المصرية لزميل أقل رتبة منه: "اللي (مَنْ) هيعدي سليم لغاية 2030 هو اللي هيكمل، وأظن أنت الكلام ده (هذا) عارفه كويس."
ترنّ في أذني هذه الجملة التي جاءت في خضم مسلسل مخابراتي أذيع منذ حوالي أربع سنوات، ولم أستطع تجاهلها كلما زادت التحديات التي تحيط بالدولة المصرية، وتبدو الأزمة – الورطة قاب قوسين أو أدنى من أبوابها، وفي حرب إسرائيل على قطاع غزة كادت تضربها بقوة، بعد أن تضاعفت أساليب التحرش والاستفزاز العسكري في جنوب غزة، وظهر على السطح سيناريو تهجير سكان القطاع إلى مصر، بالتزامن مع أزمات هيكلية في ليبيا والسودان، واليمن وجنوب البحر الأحمر وفقدان جزء كبير من موارد قناة السويس، ومع إثيوبيا التي فوتت عمدا كل فرص التفاهم مع القاهرة وشيّدت سد النهضة في غياب أيّ اتفاق مُلزم.
تعجّب مصريون من صبر وحذر وتريث قيادتهم بشكل مبالغ فيه، ولم يفهم الكثيرون لماذا، وما هي الأسباب الحقيقية، والمآلات التي يمكن أن يفضي إليها، وكانت الإجابات تأتي دائما محمّلة بالرفض والسخرية أحيانا، واستوعبت السلطة في القاهرة الكثير من الانتقادات الحادة التي وجهت إليها. وفي مرات قليلة ردّت ولم يكن ردّها مقنعا، أو تكشف عن تفاصيل ما يدور في ذهنها، وعندما كانت تقدم إجابات لم تحسن اختيار ناقليها، ويتم التشكيك في مصداقيتها، وربما يكون ذلك مقصودا كنوع من التمويه والمراوغة، أو على طريقة "كل بالإشارة يفهم."
دارت الأيام بكل ما حملته من حروب واشتباكات وخلافات، ووصلنا إلى مشهد ما قبل النهاية وهو الحرب بين إسرائيل وإيران ودخول الولايات المتحدة على خطها مباشرة، ولا أحد يعلم المدى الذي يمكن أن تصل إليه والتداعيات الإقليمية الناجمة عنها، وبدأ مصريون يتذكرون ما مروا به على مدار السنوات العجاف الماضية، وكل منهم يفسر أحداثها بطريقته، لكن عددا منهم أعاد الاعتبار إلى تفكير القاهرة، وقدرتها على استشراف ملامح من المستقبل، وبدأت جملة ضابط المخابرات المصري في مسلسل “هجمة مرتدة” تتحول إلى "تريند" على مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام، ويعاد اكتشاف العمل الدرامي مرة أخرى بطريقة سياسية.
في كل المرات التي أُنتج فيها مسلسل يحكي عن قضايا حيوية ومن إشراف الأجهزة الأمنية بمصر، نعلم أن هناك رسالة معينة مطلوب توصيلها، وتتعلق بالماضي، ويعد "هجمة مرتدة" من الأعمال القليلة التي خاطبت المستقبل، ولم تكن معالمه واضحة في حينه كما نراها الآن، ومن المؤكد أن القائمين عليه قصدوا تنوير الرأي العام وتعزيز ثقته في قيادتهم بعد فترة من التذبذب والمراوحة، وصلت حد التشكيك في سياساتها، بدءا من كثافة المشروعات التنموية وتخفيف الاعتماد على الاستيراد، وحتى تطوير تسليح الجيش ومده بأنواع حديثة من الأسلحة القادمة من الشرق والغرب. هل معنى ذلك أن مصر نجت، أو تجاوزها قطار التغيير من الخارج؟
يصعب القطع بإجابة محددة، نعم أم لا، لأن هناك أزمات اقتصادية كبيرة في البلاد، سوف تزداد سوءا إذا اتسع نطاق المواجهات في الشرق الأوسط، وسُدت طرق التجارة فيها وتأثرت حركة الملاحة، كما أن ما يحدث مع إيران لن يكون الأخير، فتسلسل التطورات في المنطقة يشير إلى أن المعركة مع طهران قد تشهد مفاجآت، ولا يزال رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو مصمما على إعادة ترتيب أوراق المنطقة، ويحظى بدعم لافت من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما أن عام 2030 تفصلنا عنه خمسة أعوام، يمكن أن تحدث فيها تطورات أكثر درامية.
بعد نبوءة مصر نجت الدولة من مطبات عديدة، وبدت مستعدة لمواجهة ما هو أقسى الفترة المقبلة، لكن هل إمكانياتها تساعدها على أن تتجاوز عراقيلها، بعدما أُفرغ، أو كاد، المسرح في المنطقة من بعض اللاعبين المشاغبين ممن شغلوا إسرائيل والولايات المتحدة فترة طويلة من الوقت؟
المنهج الذي تتعامل به مصر مع قوى إقليمية ودولية ويعتمد على عدم التدخل في شؤون الدول وتعزيز مبدأ التسويات وتطبيق القوانين الدولية، لا يسبب إزعاجا كبيرا لأحد، طالما أنه يقف عند حدود الخطاب الرمزي، ولا يندرج في إطار عقد تحالفات إستراتيجية لها ارتدادات عسكرية، وهو ما حافظت عليه القاهرة، فكما انفتحت على الصين وروسيا، لم تغلق أبوابها في وجه الولايات المتحدة وأوروبا، وعلى العكس سرّعت من وتيرة تعاونها مع الاتحاد الأوروبي، ووجدت ملفا حيويا تتقاسم همومه مع عدد من دوله، وهو ملف اللاجئين والهجرة غير الشرعية.
غضب مواطنون من استقبال بلدهم مئات الآلاف من السودانين، والملايين من جنسيات مختلفة، وتعاملوا مع الأمر من زاوية تأثيره على حياتهم وتردي بعض الخدمات المقدمة إليهم، وتعجبوا من إفساح السلطة المجال لاستقبال أعداد غفيرة منهم، ربما فهمت شريحة من المصريين مؤخرا أن السلبيات التي حملها هذا الملف، تنطوي على إيجابيات، منها أن أيّ استهداف لمصر يطلق طوفان الهجرة غير الشرعية على أوروبا.
ولعلنا نتذكر موقفا مهما للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في لقاء مع مستشار ألمانيا السابق أولاف شولتس بالقاهرة عقب أيام قليلة من عملية طوفان الأقصى، عندما طلب الثاني السماح باستقبال سكان غزة في مصر، وجاءه الرد بالرفض، ملحقا به ما يعني أن أيّ تهجير قسري للفلسطينيين سيعقبه تهجير مماثل للملايين من اللاجئين والمقيمين في مصر باتجاه ليبيا ومنها إلى أوروبا، ضمن عملية واسعة للهجرة غير الشرعية، ما دفع المستشار الألماني إلى التراجع عن طلبه السياسي المغلف بملمح إنساني، وتبين أن استقبال مصر لمهاجرين كان ورقة لممارسة ضغوط أو تخفيفها.
أضف إلى ذلك، هناك سلسلة من الإجراءات اتخذتها السلطات في مصر للتضييق على الحريات ولقيت انتقادات وربما اتهامات، ثم تأكد مواطنون أن القيادتين السياسية والأمنية كانتا على صواب بعد أن رأتا حجم اختراق الموساد الإسرائيلي لإيران.
وتخيل هؤلاء أن أجهزة الدولة في مصر أخفقت في تجفيف منابع الإخوان، ولم تتمكن من إنهاء ظاهرة الإرهاب في سيناء، أو لم تقم بكبح منظمات رفعت شعار حقوق الإنسان للتغطية على أهداف أخرى، وقتها كانت البلاد ستواجه مأزقا مركبا، حمتها مناعتها من دخوله، وأوقفتها نبوءتها من الاقتراب منه.