ضرورات حتمية.. إيران وترميم قوة الردع

الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق يحرج طهران سياسيا بشكل لم تواجهه من قبل.

دون شك فإن مسار التطورات في المنطقة، لاسيما بعد السابع من تشرين الأول العام الفائت، وضع إيران أمام جُملة من التحديات المؤطرة بضرورات حتمية. هي ضرورات تحتاجها إيران لجهة الدفاع عن صدقية شعاراتها في تحرير فلسطين، وإزالة إسرائيل من الوجود. لكن الشعارات تبقى في إطارها الهزلي، لاسيما أنها تفتقر إلى الجدية المطلوبة في تحقيق الشعارات إلى واقع. فقد بات واضحاً أن المواجهة بين إيران وإسرائيل ومنذ بداية العام 2024، اتخذت مناحي متعددة تجاوزت في مضامينها ما يُسمى قواعد الاشتباك، التي حكمت المواجهة بين طهران وتل أبيب. لكن في المقابل فإن تزايد النفوذ الإيراني في سوريا، وصبغه بتوصيفات مستشارين عسكريين لمساعدة دمشق في حربها فقط، هي إدعاءات لا يمكن لإسرائيل تصديقها، خاصة أن إيران ترى في الجغرافية السورية بوابة لمشروعها الإقليمي.

وفق المنظور الإيراني فإن الجغرافية السورية تتمتع بأهمية استراتيجية لا تتوفر في مناطق النفوذ الإيراني سواء في العراق أو لبنان. فدمشق وفق الرؤية الإيرانية تكاد تكون جسراً باتجاه الحدود الفلسطينية، وإسرائيل ضمن هذه الرؤية تُشكل منافساً لإيران في المشروع الإقليمي؛ نتيجة لذلك فإن الوجود الإيراني المُكثف في سوريا يُعد إيرانياً خط الدفاع الأول عن طهران ونفوذها الإقليمي، وحتى لحماية إيران من الداخل.

ضمن ما سبق، فإن عملية طوفان الأقصى وما تلاها من تصعيد، فرضا على إسرائيل نمطاً من المواجهة المعلنة وغير المعلنة مع إيران، خاصة أن الرؤية الإسرائيلية في هذا الإطار، تتلخص في مسؤولية طهران وإدارتها المادية والمعنوية لعملية "طوفان الأقصى". وربطاً بذلك فإن إسرائيل كان لزاماً عليها نقل نوعية المواجهة مع طهران إلى مستويات جديدة. هي مستويات أوجعت إيران، فعمليات إستهداف المستشارين الإيرانيين وكوادر الصف الأول في المقاومة، تُسهم نوعاً ما في تحقيق الغاية الإسرائيلية بتفكيك وضرب القيادة الإيرانية المسؤولة عما يجري على حدودها الشمالية مع لبنان والجنوبية مع غزة.

العمليات التي قامت بها إسرائيل، ونوعية الأهداف التي تم تصفيتها، وتحديداً خلال الشهرين الأخيرين، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن إسرائيل ترصد بدقة متناهية المنظومة الأمنية لإيران، والأهم أن إسرائيل رصدت هرمية القرار في المحور الذي تقوده إيران. وبناءً على ذلك هندست عملياتها. وللتذكير فإن ما قامت به واشنطن وإسرائيل في بداية عام 2020، واغتيال قاسم سليماني، أعطى إشارة واضحة إلى أن واشنطن وتل أبيب افتتحت مشروعها ضد إيران والمحور الذي تقوده، واستكمالاً لِما بدأ، فإن إستمرار استهداف الكوادر الإيرانية والمتحالفين معهم، وتحديداً "حزب الله" اللبناني والفصائل الفلسطينية، هو سياق واضح في مضمونه وأهدافه. فالغاية هي ايقاف الأنشطة الإيرانية في عموم المنطقة، ولا سبيل لذلك إلا من خلال التصفيات وعمليات الإغتيال.

العملية التي قامت بها إسرائيل واستهدفت من خلالها الجنرال رضى موسوي المسؤول في قوة القدس، وما تلاها من استهداف المسؤول الأمني لقوة القدس في سوريا والعراق الحاج صادق اميدزاده، أجبر إيران على دق ناقوس الخطر، وإتباع آليات أمنية مختلفة. فما حدث يؤكد حجم الاختراق في المنظومة الأمنية الإيرانية. لكن تبقى العملية التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق، الأكثر إيلاماً في توقيتها ومكانها، إذ يبدو واضحاً أن إيران حاولت في إطار إجراءاتها الأمنية واللوجستية الرامية للحفاظ على حياة مستشاريها الأمنيين والعسكريين، وإبعادهم عن العين الإسرائيلية، لكنها فشلت أيضاً، لاسيما أن القنصلية الإيرانية محمية بالقانون الدولي، لكن العملية الإسرائيلية تمت بنجاح.

استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، يُترجم حجم التحديات التي تواجهها إسرائيل. فإسقاط كل الاعتبارات الدولية وخرق كافة قواعد الاشتباك المعمول بها، يعكس الرغبات الإسرائيلية في تحجيم النفوذ الإيراني وإصابته في مقتل. لكن في المقابل فإن قصف القنصلية الإيرانية، يضع طهران أمام تحدٍ يتجاوز في أبعاده التحدي الإسرائيلي، لاسيما ان الصفعة القاسية التي تلقتها إيران لم تطل فقط مستشاريها، بل هي صفعة وهزيمة لحقت بمؤسستها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، وهذا ما يحتم على صانع القرار الإيراني أن يخرج من المواقف الاعتيادية والروتينية، والرد عبر الوكلاء. فإيران أمام موقف يفرض عليها الرد بطرق مغايرة وبعيدة عن سردية "الرد في الزمان والمكان المناسبين".

الرد الإيراني تحكمه حتمية استراتيجية. هذه الحتمية ترقى إلى ترميم قوة الردع الإيراني، خاصة أن جُل العمليات الإسرائيلية تمت على الأراضي السورية وضمن مواقع أمنية وعسكرية بعيدة عن إيران وجغرافيتها، بمعنى أنها مواقع لا تحمل صفة السيادة. وحتى على مستوى الاستهدافات التي طالت علماء إيرانيين أو قادة الحرس الثوري داخل إيران فإنها وضعت في إطار الصراع الداخلي. لكن استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، أسقط الهيبة الإيرانية، فهو استهداف مباشر للسيادة الإيرانية، ما يحتم الرد عليه.

إذاً، إيران في حاجة للرد يُحقق لها معطيين. الأول، رد الاعتبار والهيبة للمؤسسة الأمنية والعسكرية؛ والثاني، إعادة صدقية شعاراتها ذات البعد العقائدي. وبين هذا وذاك فإن إيران باتت بحاجة أيضاً إلى ترميم صورتها لدى المحور الذي تقوده، والأهم أن رد حلفاء إيران سواء في لبنان أو فلسطين على عملية استهداف قنصليتها، ستكون له تداعيات خطيرة تطال صورة إيران لدى حلفاؤها أولاً، وإقليمياً ودولياً ثانياً.

إيران أمام ضرورات حتمية، خاصة أن تلك الضرورات ترتبط بشكل مباشر بصدقية الصورة التي تحاول إيران تكريسها من خلال طرحها لمشروع الأمن الإقليمي وطموحها في قيادة هذا المشروع. والأمر الأخر، فإن تأخير الرد أو الرد عبر الحلفاء، سيفتح شهية إسرائيل والولايات المتحدة على استهدافات علنية داخل الأراضي الإيرانية. وما قاله المرشد الأعلى أن إيران ستوجه ضربة لإسرائيل تجعلها تندم على فعلتها، يبقى في إطاره الإعلامي، في انتظار تطبيقه واقعاً.

لا شك بأن الإتصالات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، نشطت وازدادت بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق. فالطرفان الإيراني والأميركي يحرصان على عدم توسيع دائرة الحرب، وهذا بحد ذاته كفيل بدفع الطرفين إلى البحث عن تسويات وتفاهمات، تُجيز لطهران الرد المدروس، شريطة عدم الانجرار إلى حرب إقليمية شاملة لا أحد يريدها، لتكون النتيجة من ذلك، استثمار إيران للحدث، في ملفات أكثر أهمية كالعقوبات الغربية والاتفاق النووي.