الحياة تواجه الموت في 'صندوق باندورا'

أوسامو دازاي يعتمد على يوميات مريض بالسل في مشفى لصباغة رواية بديعة نسمع فيها صوتَ الألم والأحلام والطبيعة ونشمُّ فيها رائحةَ الموت والأمل في الوقت نفسه.

تعتمد هذه الرواية  القصيرة "صندوق باندورا" لأوسامو دازاي أحد أبرز الروائيين اليابانيين في القرن العشرين، على وقائعَ حقيقية بطلها شاب في مَطلع العشرينيات يُسمى شوسكيه كيمورا، تعرف على الروائي أوسامو دازاي من خلال أعماله، وتعلَّق بأدبه وشخصه، وكان يأمل أن يصبح أديبًا مثله، إلا أن إصابته بمرض السل اضطرته إلى المكوث في المَشفى، فبدأ يَسرد يومياته في رسائل يَبعثها إلى الروائي الأثير لديه دازاي، يعبر فيها عن تجاربه في المستشفى، ورؤاه الأيديولوجية، وعلاقته مع ممرضتين من مقدمات الرعاية في المصحة، وانتهى به الحال إلى الانتحار يأسا من مرضه. كانت تلك اليوميات مادةً ثرية ﻟ دازاي، صاغ منها هذه الرواية البديعة التي نسمع فيها صوتَ الألم والأحلام والطبيعة، ونشمُّ فيها رائحةَ الموت والأمل في الوقت نفسه.

في كلمته التي وجهها للقراء مع بداية نشر الرواية مسلسلةً في جريدة كاهوكو شينبو، قال دازاي "تأخذ هذه الرواية شكل رسائل يُرسلها إلى صديق حميم. شاب في العشرين من عمره يصارع المرض في مصحة أُطلِق عليها اسم "صالة الألعاب الصحية". وأعتقدُ أن قليلًا من الروايات التي تأخذ شكل الرسائل سبق أن نُشر مسلسلًا في الصحف والمجلات؛ ولهذا السبب ربما وقع القراء في حيرة أثناء الحلقات الأربع أو الخمس الأولى، ولكن صيغة الرسائل تُعد شديدة الواقعية؛ ولذلك جربها الكثير من الكتاب منذ زمن بعيد، سواء داخل اليابان أو خارجها.

أما بخصوص عنوان "صندوق باندورا" فقد أشار إليه دازاي في أول حلقة من حلقات الرواية؛ حيث جاء "تعرف قصة صندوق باندورا في الأساطير اليونانية، أليس كذلك؟ بمجرد أن يُفتح الصندوق الذي لا يجب فتحه، تخرج منه الآلام والأحزان والغيرة والجشع والشكوك والمكر والمجاعة والحقد وكل أنواع الحشرات المشئومة، فتغطي السماء، وتطير محلِّقةً هنا وهناك مع طنينها المزعج، ومنذ ذلك الوقت، فُرض على البشر أن يتعذَّبوا في التعاسة، ولكن، في ركنٍ من ذلك الصندوق، بقي حجر صغير لامع في حجم بذرة الخشاش، وكُتب على ذلك الحجر بحروف دقيقة كلمة "الأمل".

عانى بطل الرواية في البداية من التهاب رئوي بسبب ارتفاع درجة الحرارة، ثم عانى من التهاب ذات الجنب بعد تحسنه، وتطورت حالته الصحية سوءا حيث لم يستطع التوقف عن السعال "رئتي تهدر"، يستيقظ فجأة بهاجس "سعال الدم" ليتأكد أنه صحيح وليس مجرد هاجس. أنه مرض السل. يقول "اختار لي أبي "صالة الألعاب الصحية" هذه. وكما تعلم فأبي أستاذ جامعي في علم الرياضيات. ربما كان بارعًا في حساب الأرقام، ولكنه يبدو أنه لم يسدِّد حساب فاتورة بنفسه ولو مرةً واحدة من قبل. ولأننا فقراء دائمًا، فلا يجب أن أطلب رعايةً طبية مرفهة. وحتى لهذا السبب فقط تُعد "صالة الألعاب الصحية" المتواضعة هذه مناسبةً لي تمامًا؛ فأنا لا أشكو من أي شيء. وقيل لي إنني سأُشفى تمامًا خلال ستة أشهر. ولم أتقيأ دمًا مطلقًا بعد ذلك، ولا حتى بصقت بلغمًا مختلطًا بالدم. لقد نسيت أمر مرضي تمامًا. ومدير صالة الألعاب الصحية هذه يقول إن "نسيان المرض" هو أسرع طريق للشفاء الكامل. إنه إنسان غريب الطبع قليلًا. أُطلِق اسم "صالة الألعاب الصحية"على مصحة تعالج مرضى السل، واستطاع معالجة نقص الغذاء والدواء أثناء الحرب، واكتشف طريقةً خاصة لمحاربة المرض وشجَّع وساعد العديد من المرضى حتى الآن. في كل الأحوال إنها مستشفى غريبة. هناك الكثير والكثير من الأمور الشائقة".

استخدم دازاي كلمات بطل الرواية وزملائه المرضى لوصف المزاج المكتئب بطريقة فكاهية. ويعبر عن الأمل في المستقبل الذي خرج من تحت الأنقاض بعد الحرب العالمية الثانية.

يذكر أن دازاي ولد عامَ 1909م في كاناغي إحدى قرى مدينة آموري اليابانية، لعائلةٍ ذاتِ نفوذ سياسي كبير. تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة كاناغي، والثانوي بمدرسة آموري، ثم التحق بكلية الآداب جامعة هيروساكي، واهتم بثقافة الإيدو. استقلَّ عن عائلته وتبنى الفكرَ الماركسي؛ وهو ما كان سببا في اعتقاله بتهمة التورط مع الحزب الشيوعي الياباني. اتسمَت حياته بالقلق وعدم الاستقرار؛ فقد تعددت علاقاتُه الزوجية والنسائية، وساءَت علاقته بأسرته، وأدمَن الكحول والمسكِّنات، وأُصيب بالتهابٍ حاد في الزائدة الدودية، وحُجِز في المستشفى كثيرًا، وأقدَمَ على الانتحار عِدةَ مرات. عاصَر فترةَ الحرب العالمية الثانية، لكنه عُفِي من المشارَكة فيها لإصابته بمرض السل، إلا أن منزله شبَّت فيه النيران مرتَين أثناء تلك الحرب. له عِدة أبناء، منهم ابنته ساتوكو التي أصبحت فيما بعدُ كاتبةً مشهورة عُرِفت باسم يوكو تسوشيما.

تأثر دازاي في تجرِبته الأدبية بالعديد من الأدباء مثل: أكواتاغوا، وموراساكي شيكيبو، ودوستويفسكي. ومن أبرز أعماله الروائية: "الشمس الغاربة"، و"لم يَعُد إنسانًا". أقدَم على الانتحار غرقًا برفقة صديقته يامازاكي في 13 يونيو/حزيران 1948م، وعُثِر على جثتَيهما في 19 يونيو/حزيران 1948م، الذي صادَف عيد ميلاده التاسع والثلاثين، ليرقد جثمانه في معبد زينرين جي في ميتاكا، طوكيو.

مقتطف من الرواية

إن الأمر مقرَّر منذ قديم الزمان. من المستحيل أن يتملك اليأس من البشر. يُخدع البشر من الأمل على الدوام، ولكن على الجانب الآخر يحدث أن يُخدعوا أيضًا بنفس الطريقة من فكرة "اليأس". لنتحدث بصدق، إن الإنسان وهو غارق لأذنيه في قاع التعاسة متمرغًا في الوحل، يظل يبحث في كل الأوقات بيديه على خيط لبصيص من الأمل. وهذه الحقيقة قرَّرتها آلهة الأوليمب منذ وقت صندوق باندورا. تسير سفينة عصرنا الجديد إلى الأمام بسلاسة متقدمةً بخطوة تاركةً بتعمُّد الناس الذين يُظهرون حماسًا وروحًا عالية على الشاطئ مستمرين في الخطابة بعصبية عن أمور عديدة مثل التفاؤل والتشاؤم. ما من ازدحام مطلقًا. وكأن هذا مثل امتداد نبات اللبلاب، حيث يتغلَّب انتحاء الشمس الطبيعي على الإرادة.

دعنا الآن من طريقة قول المغرورين الذين يُلقون باللوم على الناس جميعًا ويتعاملون معهم على أنهم خونة. إن ذلك يجعل هذا العالم التعيس أكثر كآبةً فقط. أليس من يلوم الآخرين هو أكثر من يفعل الشرور سرًّا؟ سيكون من حسن الحظ إذا انعدم وجود سياسيين يفكِّرون في حبك مؤامرات بارعة إلى حد ما، ولكن أتمنى من الناس أن تنتبه حقًّا فلا تندفع وتتسرَّع وراء التلفيق والتدليس للتملُّص الموقت بحجة الهزيمة في الحرب هذه المرة؛ لأن مثل هذا التبرير الضحل هو سبب فشل لليابان حتى الآن. وإن كرَّرنا ذلك الفعل مرةً ثانية ربما سنكون أضحوكة العالم. يجب علينا أن نكون أكثر بساطةً وتلقائية بلا غرور. لقد انزلقت الباخرة الجديدة الصنع إلى البحر بالفعل.

مع ذلك حتى أنا عانيت معاناةً شديدة حتى الآن. فكما تعلم، في ربيع العام الماضي ومع تخرُّجي من المدرسة المتوسطة، أصِبت بحُمَّى أدت إلى التهاب رئوي، وبسبب رقودي في الفراش لمدة ثلاثة أشهر لم أستطع حضور اختبار الالتحاق بالمدارس الثانوية، وبعد أن استطعت النهوض والمشي على قدمي بشكل ما، استمرت الحمى بدرجة خفيفة، وقال الطبيب لي إنه ثمة شكًّا في التهاب ذات الجنب، وأثناء معيشتي في البيت بلا هدف، فات موعد اختبار هذا العام أيضًا، وكنتُ قد فقدتُ وقتها رغبتي في مواصلة الدراسة لمرحلة أعلى. وأضحى المستقبل أمامي ظلامًا دامسًا، فلم أدرِ ماذا أفعل والحال هكذا، وشعرت بالأسف تجاه أبي بسبب وجودي في البيت بلا هدف، وكذلك شعرت أن وضعي السيئ أمام أمي ليس عاديًّا. ربما لم تخُض أنت تجربة البطالة بلا دراسة ولا عمل، إنها جحيم حقيقي ومؤلم. قضيت ذلك الوقت في قلع الحشائش من الحقل فقط. وكنت أحاول إعادة الاعتبار إلى وضعي من خلال تقليد الفلاحين. وكما تعلم، فخلف بيتنا حقل يبلغ مساحته قيراطين تقريبًا. ولسبب مجهول كان ذلك الحقل مسجلًا منذ زمن باسمي. ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد، ولكنني بمجرد أن أضع قدمي داخل ذلك الحقل، أشعر براحة كبيرة وكأنني تحررتُ قليلًا من الأثقال والضغوط التي من حولي. لقد صرتُ خلال هذا العام أو العامين وكأنني المسئول عن هذا الحقل؛ أقلع الحشائش، ثم أعيد حرث التربة حريصًا على ألَّا تلمس جسمي، وأصنع جبيرةً خشبية للطماطم، وأنا أفكِّر أن ذلك ربما يساعد قليلًا في زيادة المواد الغذائية، فكنتُ أحتال بقضاء كل يوم بيومه، ولكن يا عزيزي ثمة كتلة من القلق تشبه الغيوم السوداء قابعةً في قاع صدري لا تفارقه ولا يمكن الاحتيال عليها. أفكِّر ماذا سيكون عليه حالي إذا واصلت حياتي بهذه الطريقة؟ لن أصل إلى شيء، ولكن أليس هذا هو «شُرَّابة الخرج»؟ وعندما أفكِّر هكذا أصاب بالذهول، ولا أدري ماذا يمكنني عمله. ولم أستطع احتمال عذاب التفكير أن حياتي بهذه الطريقة ليس لها معنًى ولا تُسبِّب إلا الإزعاج فقط للآخرين. ولا يمكن لطالب نجيب مثلك أن يفهم هذا الشعور، ولكن ما من شعور في هذا العالم أقسى من أن يشعر الإنسان أنه «عالة وأن حياته لا تسبِّب إلا الإزعاج للآخرين".