الدلال والدَّلالة في 'دلال اليمام'
سبع عشرة قصة قصيرة تضمها المجموعة القصصية "دلال اليمام" للكاتبة عزة عزالدين والتي صدرت مؤخرا عن دار المفكر العربي بالقاهرة، وجاءت في ثماني وثمانين صفحة.
والدَّلال في لغتنا العربية هو التغنُّج والتدلُّل والرفاهية والترف، وأيضا الزهو والعُجْب والتيه، وهو اسم مصدر من الفعل "دلَّ"، والدلال من المرأة حسنُ حديثها ومَزْحُها. ودَلَّلَ امْرَأَتَهُ: عامَلَها بِلُطْفٍ وَرِقَّةٍ. وتدَلَّلَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا: أَظْهَرَتْ غُنْجاً وَدَلاَلاً وَحُسْنَ حدِيثٍ. فهل تحققت هذه المعاني والصفات في تلك المجموعة التي اتخذت من الدلال عنوانًا لها؟ ولكنه ليس أي دلال، إنه دلالُ اليمام.
واليَمَامُ (في علم الأَحياء): هو جنسُ طير من الفصيلة الحمَامية، ورتبة الحماميات: الحمامُ البَرِّيُّ، واحدُته: يمامة. لَهُ أَجْنِحَةٌ مُتَوَسِّطَةُ الْحَجْمِ، وَمِنْقَارٌ صَغِيرٌ، وَذَنَبٌ طَوِيلٌ، سَرِيعُ الطَّيَرَانِ. مشهور بخفَّة طيرانه. ولعلَّنا نتذكر "زرقاء اليَمامة": تضرب العربُ بها المثلَ في جودة البصر، وحدّة النظر.
فما الذي تقوله قصة "دلال اليمام" التي أطلقت الكاتبة عزة عزالدين اسمها على المجموعة كلها، وهي القصة السادسة بالمجموعة؟ وما يدلُّ عليه هذا الدلال؟
سنجد في هذه القصة الدلال واللطف وحُسن الحديث والرفاهية والترف، سنجد العبارة التي تقول "ملتُ برأسي، وبدلال اليمام توسدتُ كتِفَك"، وسنجد أيضا "لم يعد لي رفاهية الفِرار"، وسنجد "دعني بحق الطيور الشاهدة علينا"، إنها طيور اليمام التي تتميز بجودة البصر وحدة النظر، لتكون الشهادة على الموقف أشدَّ عمقًا وأبعدَ أثرًا، تلك الطيور التي وشوشت الذات الكاتبة ونقلت لها رسالة طمأنينة بأن المحب يشعر بها. قالت تلك الطيور: "لا تقلقي هو يشعر بك".
لقد أحبت الذات الكاتبة هذه الكائنات الناعمة من أجل حبيبها، فأصبح الحبُّ حبين: حب الحبيب، وحب اليمام، وكأنني أسمع رابعة العدوية تقول في عشقها الإلهي: أحبك حبين: حبَّ الهوى وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا.
ولا نستبعد في هذه القصة ذلك العشق والوجد الصوفي، حيث ينهل الحبيب من معين الوجد، ويغدق بالأكثر.
إننا نستطيع أن نطور تلك العلاقة ودلالتَها بين الذات الكاتبة وحبيبها إلى مستوى صوفي أعلى مما جاء على صفحات المجموعة، وهو ما يشي به ما بين السطور، وترمز له الكلمات الوجدانية في تلك المجموعة القصصة بعامة.
وإذا كانت الذات الكاتبة، أو أميرة (اسم بطلة القصة) تخطُّ رسالتها لحبيبها، وهي التقنية التي اعتمدتها الكاتبة، فإنها على مستوى آخر تخاطب ذاتا أخرى غير ذات الحبيب البشري، ربما تكون الذات المحمدية أو الذات الإلهية دون أن تدري. إنها تكتب بمداد روحها، وليس بمداد قلبها أو مداد قلمها. وهي في اللحظة التي ترددت فيها بين عالمين، عالم جواني يعشق ويتأمل ويصفو ويتصافى مع الكون، ولحظة خارجية ترفض ما يحدث وتحاول أن تنزع أحلامها من روحها، تجد من يربت على كتفها، ويمنحها رسالته التي بمجرد قراءتها تجد أميرة نفسها تبتسم ابتسامة تنافس نور الشمس. إنها ابتسامة الأمان والطمأنينة. ليتغلب شعورها الباطني على المظاهر الخارجية، وتمتد إليها يد اللطف والرقة والدلال. هل هي رسالة ملائكية، تعيدها إلى الطريق التي كانت ستخرج عنها، بعد أن انتابتها بعض الشكوك فسفحت بعض الدموع، وحاولت الهروب، أو الابتعاد عن طريق الوجد الصوفي، ولكن ها هي الرسالة واليد الحنون تعيدها إلى الطريق بشيء من الود والصفاء، فللشوق جذوة، وللحنين منتهى، وللأمل سبيل.
على ذلك نستطيع أن نرصد حركتين في تلك القصة، حركة الداخل وحركة الخارج، حركة الداخل تتمثل في الشعور والروح وخفقات القلب والشوق والحنين والعتاب والفهم والحب والأمان والحلم والانتماء والنشوى، وحركة الخارج التي ترقص على إيقاعات الداخل وتموجاته الباطنية، وتتمظهر به، وتتمثل في الرأس والكتف والدموع وخيوط الشمس والنسمات الدافئة والمكان والسفينة الشاردة والضفة والطيور والفضاء الرحب والهمهمات التائهة والكائنات الناعمة والرسالة والقصاصات والنهر والطريق ونور الشمس.
وتنجح الكاتبة في المزج بين الحركتين؛ حركة الداخل وحركة الخارج، لتقدم لنا لوحة إنسانية في غاية النبل والرقي والسمو.
وعلى ذلك نستطيع أن نتعامل مع بقية قصص المجموعة من خلال هذا المنظور، ولنأخذ مثالا آخر بقصة "وشاح من الورد" التي نجد فيها أميرةً أخرى، وتقنيةً أخرى غير تقنية الرسائل، وهي تقنية المذكرات "سحبت أميرة دفتر مذكراتها، لتسكب فيه بمِداد الروح"، ونجد أيضا مِداد الروح وليس مِداد القلب، أو مداد القلم.
ولنجد أن حركة الخارج تتمثل في: الأطيار والألحان المبهجة والربيع والنغمات والمكان والزهور العطرة والأشجار والنخلات الباسقة والماء والمناظر الخلاقة والجدران والصور والطيف والابتسامة والنور والرجفة والصديقات والربوة العالية واللون الأخضر، ووشاح من الورد والأهلّة والليل والظلام والشموع والنجوم والمقعد الخيزران والقلب والقلم وخصلات الشعر.
بينما تتمثل حركة الداخل في شفرة العشق، والشغف والسر والحرية والروح والوجدان والأحلام والرغبة والسعادة والحب والقلق والأمان.
ولعلنا قد لاحظنا في هذه القصة أن مفردات الحركة الخارجية، جاءت أكثر من مفردات الحركة الداخلية، بما فيها العنوان "وشاح من ورد" وإذا دققنا النظر سنجد أن المفردات الخارجية جاءت تعبيرا وتمثيلا وتجسيما لحركة الداخل الذي يطلعنا على صفاء قلب وطهارة وجدان وتسامح روح، وهو الحال التي نجد عليها الذات الكاتبة على امتداد المجموعة القصصية، وهو ما يدل على أن تلك القصص السبع عشرة تصدر عن روحٍ محبةٍ للحياة، عاشقةٍ للطهر والسمو، ترفرف في الأعالي، وتنظر إلى الناس والمجتمع دائما نظرةً ملؤها العطف والود والحنان والحنو.
وفي أكثر من قصة تتردد كلمات أغاني عبدالحليم حافظ العاطفية مثل "اسبقني يا قلبي اسبقني" وغيرها، وهو ما يذكرني بفيلم "زوجة رجل مهم" حيث كانت بطلته (التي جسدتْ دورَها الفنانة ميرفت أمين) عاشقًة لأغاني عبدالحليم حافظ التي تمثل لها حالة من حالات الصفاء والعشق وترمز إلى زمن رومانسي جميل.
وتجئ بعض القصص لتواكب حركة الحياة أثناء اجتياح فيروس كورونا اللعين وانتشار الرعب والهلع والصراخ والعويل بين البشر، وتنثال الذكريات، وتتجمع اللحظات الإنسانية من أجل مجابهة الوباء بالتكاتف والتعاضد والمشاعر النبيلة، ويتواصل الدعاء من أجل الشفاء وإطلالة جديدة على الحياة، لكن القدر لم يمهل بطلة القصة منى، وينتهي أجلُها عن طريق الإيحاء وليس التعبير المباشر، حيث الخبر الذي حسم الشجار بين الأشقاء للأبد، ولم يكن هذا الخبر سوى إعلان موتها كما توحي به نهاية القصة الإنسانية المستوحاة من أحداث كلنا عايشناها وواكبناها وتألمنا لها، وها هي كاتبتنا تتفاعل معها بتصوير فني وتحليل نفسي جيد.
ومثلما واكبت الذات الكاتبة وباء كورونا اللعين، فقد واكبت أيضا التحول الرقمي الذي يحدث في عالمنا الآن من خلال قصتها "ثرثرة قلم أخضر" وهي على عكس الكثيرين ممن يتعاملون مع الشبكة العنبكوتية وصفحات الفيس بوك وتويتر وغيرها، فإنها تحلل الواقع النفسي أثناء الإبحار إلى العالم الرقمي، فتشعر بتوقها أكثر للسعادة، والعشق، فلم تتبدل روحها في عالمها الرقمي عن تلك الروح الفياضة في عالمها الواقعي.
إذن نحن أمام مجموعة قصصية وجدانية رومانسية ناعمة شفاَّفة عاشقة هامسة، تتآلف مع الطبيعة، وتنسجم مع نبض الحب والدفء والصدق والطمأنينة والدعاء والحنين إلى ماض جميل، وإلى شهد الكلمات المجلَّلة بالشهد والدموع والنور والنقاء، لا نجد فيها أصواتًا عالية أو متشنجة، لا نلمح فيها صورًا من قاع المجتمع أو أبوابه الخلفية ونواقصه وصراعاته اللانهائية ودواماتِه العفيّة.
إنها تعكس مشاعر وتصور دواخل النفس البشرية لحظة نقائها، وهي ترتدي ثوبها الأبيض الزاهي، قبل أن يلوثه لونُ الدم والكآبة والانتقام والغلّ والحسد. وهي لحظة نورانية نحتاج إليها في الكثير من الأحيان لنشعر بإنسانيتنا وبجمال حياتنا وصفاء كوننا وسمو مشاعرنا، فليس المجتمع كله أسود، وإنما هناك دائما لحظات بيضاء، مثل بياض اليمام، ومناطق ماسيّة ناصعة، تدلنا على خطوات الروح بداخل صندوقنا البشري قبل أن يأكله الصدأ وتعلوه أملاح الكراهية، وأحقاد النفس الإمارة بالسوء.