الطبقات الجوفية للنصوص الإبداعية

الصحافي المصري محمد شعير يضعُ قارئ كتابه 'أعوام نجيب محفوظ البدايات والنهايات' أمام ما أراد صاحب نوبل تناوله في نصوصه المبكرة.

لا تقتصرُ صورة المبدع على ما ينشرهُ في مرحلة النضوج ويحجزُ من خلاله موقعاً في صف الرواد والمؤسسين، بل التمارين الأولى على مهنة الكتابة تكشفُ عن دور الحيثيات الزمنية والمؤثرات الفارقة في نشوء الوعي بغواية الكتابة والإبداع.

أكثر من ذلك، فإنَّ ما تستشفهُ بين السطور التي هي بمنزلة الطبقات الجوفية لمصادر العمل الإبداعي يحددُ طبيعة التواصل بين النص وصاحبه، وحضور الذات الكاتبة في تضاعيف العمل الأدبي، لذلك فإنَّ تقصي البدايات وإضاءة ما يكونُ نواةً للحس الإبداعي ومُحركاً لاستكشافِ الموادِ التي تنتظمُ في صيغة فنية يعمق الإدراك بالخط الذي يسلكهُ الكاتبُ في مسيرته الإبداعية.

وما يقدمه الصحافي المصري محمد شعير في كتابه الأحدث "أعوام نجيب محفوظ البدايات والنهايات" ينزلُ ضمن الكتابة الاستقصائية، إذ يضعُ القارئ أمام ما يعبرُ عن التجارب الأولى للكتابة وما أراد صاحب نوبل تناوله في نصوصه المبكرة.

قبل ذلك يعودُ شعير إلى القاهرة في بداية العقد الثاني من القرن العشرين راصداً ما كان يدور في كواليس السياسة، ومُتابعاً الحراك الفني وما تمُ عرضه إبانة هذه الفترة من النصوص المسرحية الممصرة.

وفي ذات السياق يشيرُ الكاتب إلى ما أثار اهتمام الجرائد والمجلات وهو ما تضمنتهُ افتتاحية مجلة "الهلال" من دعوة إلى تأليف الروايات العربية مُستلهمةً موادها من مصادر تاريخية، ومن بين أكثر الكتب مبيعاً في ذاك الوقت رواية صادرة بعنوان "ميت يتكلم".

لا يتجاهلُ محمد شعير أحداثاً سياسية ساخنة على المستوى العالمي وتمدداتها في الواقع المصري، مُلمحاً إلى التيارات والاتجاهات التي توزع بينها ولاءُ المصريين.

وتتبين من الإعلانات المنشورة في الصحافة المصرية طبيعة تلك المرحلة، حيث غدت التقاليد القديمة على مرمى هجمات الحداثة، وانجذبت العاصمة نحو النموذج الغربي المتقدم.

وكانت رحلة الفنان المصري محمود مختار إلى باريس ليستكمل دراسته متزامنةً مع بوادر الانفتاح على قيم الحداثة كذلك بدأ محمد حسين هيكل بكتابة روايته "زينب" بعدما جربَ الحياة في حواضر غربية مُستعيداً أجواء البيئة المصرية.

يذكر أن القصة لم تكن فناً مرغوباً فيه، بل كتابتها تعادلُ شم الكوكايين حسب التعبير المنسوب إلى محمود تيمور.

الحدث

تنتهي تغطية محمد شعير ليوم شتوي 11 ديسمبر/كانون الأول 1911 وما أورده في خطٍ بانورامي من مشاهد سياسية وفنية واقتصادية بلحظة ولادة نجيب محفوظ عندما كانت مظاهر الحياة الجديدة تحلُ برفق على المجتمع.

طبعاً إن ما استهلَ به محمد شعير كتابه ليس حشواً، بل مستندات كاشفة عن مُتطلبات نضوج الفن الروائي وارتباطه الوثيق بالتحول الحضاري.

وفق الكاتبُ بسليقته الصحافية في تحديد مرحلة مفصلية للصراع الفكري بين أصحاب مشاريع الحداثة والمناوئين لهم، وتقع في هذا المنحى على قصة علي عبدالرزاق وكتابه "أصول الحكم في الإسلام"، إذ كلفه اجتهاده الجريء بشأن الخلافة ثمناً باهظاً.

ولم يمر كثيرُ من الوقت حتى ضربتْ عاصفة جديدة الوسط الثقافي إثر نشر كتاب "في الأدب الجاهلي" وبدأت المطالبات بإقصاء مؤلفه طه حسين من الجامعة، وما تبع ذلك من التوتر قد حدا بالعميد إلى الصمت، إذ ينصحهُ الأصدقاءُ بالابتعاد عن المعترك إلى أن ينقشعَ الغبارُ.

لا يواسي طه حسين في هذا المناخ الخانق سوى السفر إلى باريس وهناك يشرعُ بكتابة سيرته "الأيام" في رحلة معاكسة إلى سنوات الطفولة ومعاناته في القرية التي كان يظنُ بأنَّ ترعتها هي نهاية العالم.

وكان طه حسين استلهم في سيرته المكتوبة بضمير الغائب ما عاشه الفيلسوف الفرنسي جاك جان روسو الذي شرع في كتابة الاعترافات وهو في لحظة متأزمة وما توخاه العميدُ من الحفر في تلافيف أيام الطفولة حسب رأي محمد شعير هو الاحتماء ببراءة هذه المرحلة العمرية المشحونة بالبراءة من تعقيدات معارك النخبة مستمداً من أسطورته الشخصية زخماً لمقارعة التحديات المُضنية.

ما يردُ عن طه حسين والاستبطان للعوامل الحاثة على نشر أيامه حلقة من البحث الاستقصائي عن الكتابات الأولى لصاحب "حرافيش" وهو أسرَّ لبعض أصدقائه بأنَّه عندما قرأ "الأيام" كتبَ ما يحاكيه في الأسلوب والموضوع، وبلغ به التماهي أنَّه تقمص شخصية طه حسين مُتحدثاً عن القرية وتعليمه في الكُتاب.

وما تسرب إلى الصحافة عن الكراسة قد أثارَ اهتمام العديد من المتابعين وبدأ السؤالُ يلاحق نجيب محفوظ بشأنِ مخطوطه إلى أنْ أراد إنهاء النقاش بقوله "حرقته".

يشير الكاتبُ إلى رحلة مخطوطات نجيب محفوظ بين بعض الدول العربية إلى أنْ تمرَّ بلندن ونيويورك، لافتا إلى اعتراض ورثة محفوظ على مزادِ كان يقامُ في لندن لبيع كراساته ومن ثمَّ يسردُ تفاصيل اكتشافه لما يسميه بالكنز الثمين، إذ يتفاجأُ بوجود مخطوط مذكرات طفولة نجيب محفوظ "الأعوام" بين محتويات بريده الإلكتروني.

وما يجدرُ الإشارة إليه أنَّ مؤلف "خان خليلي" لم يؤرخ أيامه غير أنَّ الأديب قد حدد بداية دخوله إلى عالم الكتابة بسنة 1929 وبالتأكيد إضافة إلى القيمة التاريخية لهذه الوثيقة فهي تكتسبُ أهميةً على المستوى الإبداعي، لأنها تضيء مرحلة جنينية لتشكل الطاقة الإبداعية.

الروح الجديدة

لا يكتفي الكاتبُ بتقديم روايته حول رحلة الاكتشاف لمذكرات نجيب محفوظ، بل ينحو منحى تحليلياً مقارناً بين النص المؤسس والأعمال الروائية اللاحقة له كأنَّ شعيرَ يريدُ بذلك التلميحَ إلى أن الأعوام بمثابة نواةٍ تنشأُ عليها رواياتُ المرحلة التاريخية والواقعية ويكونُ لها امتدادُ في نصوصه الأخيرة.

قبل أن يتبعَ ظلال "الأعوام" يتناولُ محمد شعير دور البيئة والأجواء المواتية لظهور فن السيرة الذاتية ومبادرة الشخصيات الثقافية والسياسية لتسجيل تجاربها من موقعها مراقباً أو مشاركاً في التحولات.

ويوافقُ ما ذهبت إليه الباحثة لوسي ريزوفا بأنَّ السيرة هي نصوص تمكنُ الطبقة الوسطى ومعبرة عن صوتها وخصوصيتها بمواجهة العالم القديم وبالتالي فإن السيرة تمثل روحاً جديدة.

والحال فمن الطبيعي أنْ يتفاعلَ نجيب محفوظ مع هذا الشكل الجديد من الكتابة وهو ما برحَ يؤكدُ في وحواراته عن قراءته لطه حسين، واصفاً كتاباته بموسيقي الروح البشرية، فكان الأيام من أكثر ما تأثر به محفوظ كذلك "شجرة البؤس" وهي أول رواية أجيالِ في اللغة العربية تقودهُ إلى أعمال أخرى تُصنفُ ضمن هذا اللون.

ويستعيدُ نجيب محفوظ في سياق حديثه عن اختبارات دخوله الجامعة لقاءه الأول بالعميد وسؤاله عن سبب اختياره للفلسفة وإعجابه برده المقنع بأنَّه يريد معرفة الكون وأسرار الوجود.

لعلَّ الأهم في هذا التواصل بين العميد ومحفوظ هو ما يذكره الأخير عن المقال النقدي الذي ينشره طه حسين احتفاءً برواية "بين القصرين " اعتبرها قصة عالمية تنجحُ في الموازنة مع ما جادت به قريحة مشاهير الأدب في فن القصة.

طبعا كان كلام طه حسين يعادلُ صك الاعتراف بالنسبة إلى اسم كان يهمه التعميدُ من المؤسسة النقدية الرسمية، لذلك اختار محفوظ اليوم الذي كتب فيه طه حسين عن رواياته من بين أسعد أيام حياته.

ومما يضاعف من قيمة كلام صاحب "الأيام" أنَّ الصمت كان يحاصر أعمال نجيب محفوظ واستغرق الأمر سنوات قبل أن تتوالى القراءات النقدية لعالمه الروائي.

صحيح أن التجاهل قد يخلف لدى المبدع الشعور بالمرارة، لكن الكاتبَ يجبُ أن يمتلك "عناد الثيران" على حد تعبير محفوظ.

يلتفتُ شعير في مفصل آخر من الكتاب إلى مؤثرات المكان على مزاج واختيارات نجيب محفوظ الطفل، إذ ما إن ينتقل إلى العباسية حتى تسترخي قبضة الأسرة عليه وتعجبه لعبة كرة القدم ويصبحُ بارعاً في هذا المضمار.

ومن الأسماء الأدبية التي تأثر بها نجيب محفوظ كان للمنفلوطي نصيباً أوفر ومن المعلوم أن صاحب "ماجدولين" قد تغلغلَ بأسلوبه الشاعري المؤثر في وجدان جيل كامل.

إذن تعددت الروافد والمصادر التي كانت بمثابة موجهات لوعي محفوظ الأدبي، واللافت أن الأساتذة كانوا يتوقعون مستقبلاً في المجال العلمي للطالب نجيب محفوظ، لأنَّ الأخير قد تفوق في المواد العلمية، بينما مستواه في اللغات والتاريخ والعربية دون خط المتوسط.

وفي مرحلة الجامعة قد أراد محفوظ أن يكمل الدراسات العليا في اختصاصه الفلسفة وهو كان ثاني دفعته وبالتالي من حقه السفر إلى فرنسا مع البعثة الدراسية غير أن اسمه يحول دون إنجاز المشروع.

يعلقُ على هذا الموقف مؤكداً بأنَّه ليس حزيناً على بعثة الفلسفة وما كان يتمناه هو أن يتجه كليا ما اتجه إليه توفيق الحكيم.

أخيراً نبغ نجيب محفوظ في تطويع الرواية لمناقشة المواضيع الفلسفية والإنسانية ويضمر بين طيات نصوصه الإبداعية الأسئلة الإشكالية عن الموت والحياة والإيمان، فكانت الكتابةُ تعادلُ الحياة بالنسبة إلى مؤلف "ميرامار"، لذلك عندما توقف عن الكتابة بعد "الثلاثية" فكر في الانتحار.

نجح محفوظ في مد حدود الحارة نحو الكونية وتمكن في الوقت نفسه من تكثيف الهموم الكونية وصخب التاريخ في مساحة الأزقة والحارات الناضحة بالحياة، وبذلك أضاء بعداً كونياً في تربة محلية.