بوصلة سمير الصميدعي الشعرية لا تزال تميل إلى الشعر العمودي في أعماله الكاملة

علاقة صاحب 'طريـق العـمر' بالإبداع الشعري تمتد إلى ما يزيد على الستين عاما خاض خلالها تجارب مختلفة.

تحمل التجربة الشعرية العربية قديما وحديثا ظاهرة الجمع بين الإبداع الشعري ومختلف مجالات العلم والسياسة والهندسة والطب والاقتصاد والفن والفكر والفلسفة، فهناك الشاعر السياسي، الشاعر الطبيب، الشاعر المهندس، الشاعر عالم الفيزياء الشاعر المفكر والفيلسوف، والشاعر الفنان التشكيلي.. إلخ. الأمر الذي أصبح ظاهرة واضحة العيان في المشهد الشعري العربي في الوقت الحاضر، حيث حققت الجمع تمايزا وفرادة في تجارب هؤلاء الشعراء نتيجة لتأثير التخصص وانعكاساته على المخيلة.

ومن بين هذه التجارب تجربة الشاعر والسياسي والمهندس وأحد رواد استخدام الكمبيوتر في مضمار الفن الإسلامي العراقي سمير الصميدعي، الذي صدرت له أخيرا عن دار المدى أعماله الكاملة بعنوان "طريـق العـمـر"، التي افتتحها بمقدمة للناقد إبراهيم أحمد وشهادة حول تجربته بداياتها والمراحل التي قطعتها حتى الآن.

يقول الناقد إبراهيم أحمد في مقدمته أن علاقة الشاعر الصميدعي بالإبداع الشعري تمتد إلى ما يزيد على الستين عاما، خاض خلالها تجارب مختلفة من قراءات منذ الصبا تركزت على الكلاسيكيات الشعرية، ودراسة كان من المفارقة أنها في الهندسة، ربما انعكست لديه على هندسة القصيدة، ومن انغمار في تجربة سياسية نضالية طويلة إلى أسفار كثيرة ثم خوض في العمل الحكومي وهكذا تجربة بتناقضاتها وتوافقاتها لابد أن تمنح الشاعر خبرة حياتيه وروحية خاصة تنعكس على قصيدته بهذا المستوى أو ذاك!. كان مقلا في النشر أو زاهدا فيه حيث ظهرت له قصائد قليلة في صحف ومجلات عراقية وعربية ولم ينشر كتابا شعريا يمكن تقصي رأي النقد فيه. وهو ينشر اليوم ما تراكم لديه خلال سنوات طويلة، فهل سيبدو صوتا غريبا في جو أدبي عراقي وعربي طغت فيه على القصيدة الحديثة نفسها حداثة هجينة ملفقة؟ وهل سيقابل هذا الديون بانتباه ونفهم أم إعراض وصدود بحجة أنه متمسك بعمود الشعر وأغراضه التقليدية؟. ومرة أخرى؛ هل الوزن والقافية يقتلان ما تريد أن تصل إليه القصيدة من جوهر الشعر وحقائقه المراوغة أو من معاصرة، وتشبع بهموم حاضرها ومستقبلها؟ لا يحصل هذا دائما، إنما غالبا. لذا فإن حالة الشاعر التقليدي صعبة جدا ومريرة ولا يخرج منهما سالما متفوقا إلا شاعر ذو شكيمة قوية.

ويضيف " في متابعتي لقصائد الشاعر الصميدعي منذ وقت طويل وجدتها تحمل سلاسة وتدفقا وصفاء، ما يشير إلى أن الشاعر يكتب شعره عن موهبة أصيلة لا عن تكلف أو صنعة وافتعال، وإنه منغمس بشجون زمنه ومواجع بلاده والعالم وبالقدر الذي يجعل شعره انعكاسا واضحا أو غامضا له. لذا هو يحاول أن يصل إلى الحالة الشعرية أو جانب منها حتى لو أرهقته قيود القصيدة التقليدية وقدراتها وحدودها المرسومة منذ عهد بعيد حيث إن الكثير من الموزون والمقفى وعلى مر حقب طويلة خال من الشعر الحقيقي مكتفيا بموسيقاه أو صخبه ولجاجته! وكلما أفلت الصميدعي من فخاخ هذه الحالة المعيقة والمستعصية يكون قد أنقذ قصيدته أو حتى البيت الشعري أو البيتين من الهلاك وأضافهما لرصيد الشعر الحقيقي!.

وفي مقدمته يقول الصميدعي "شغفت بالشعر منذ الصغر، فكانت النصوص الشعرية المقررة في المدرسة لا تشبع نهمي ولا تعنيني كثيرا إلا بمقدار ما أحتاجه منها للحفظ والامتحان. توجهت إلى قراءة الدواوين القديمة وبالأخص دواوين شعراء العهد العباسي، ومع الوقت نمت ذائقتي الشعرية والحس الموسيقي بالأوزان الشعرية فبدأت انتبه إلى الخلل في وزن بيت من الشعر أقرأه قبل أن أعرف شيئا عن العروض التي درستها فيما بعد. وعندما ابتعثت إلى إنجلترا لدراسة الهندسة، أخذت معي بعض الدواوين ومنها ديوان المتنبي فبقيت معي ولم تفارقني طيلة فترة الدراسة. واستمر اهتمامي بالشعر واستمتاعي به بعد عودتي إلى الوطن، ولكن كان مقتصرا على الشعر القديم ولم أكن أعرف الكثير عن الشعر الحديث وشعرائه. وكنت في بعض الأحيان أحاول كتابة الشعر فانظم قصيدة وأضعها في درج ثم أعود إليها بعد بضعة أشهر فلا أرتضيها فأتلفها وأنساها. وبعد أن غادرت الوطن إلى المهجر عام 1973 بدأَت تتجمع لدي مكتبة عامرة من دواوين الشعر، كان جلها إن لم أقل كلها من الشعر العربي الكلاسيكي القديم.

ويلفت "في لندن تعرفت بالشاعر بلند الحيدري في أواخر الثمانينيات ونمت بيننا صداقة حميمة، وكان مسكني في منطقة إيلنغ قريبا من مسكنه، وأتاح لى ذلك التعرف على الشعر الحديث من خلال شعره وأحاديثنا حول الشعر، فبدأت أقرأ منه ما تيسر وأدرك أن الشعر الحديث، وعلى الأخص قصيدة التفعيلة، يمكن أن يكون الصيغة الأكثر ملاءمة لبعض الأغراض الشعرية. وكان بلند مبدعا في هذا المضمار ويعتبر أحد رواده، علما أنه كان شاعرا مقتدرا في مجال القصيدة العمودية أيضا. واقتنعت أن ملكة الشعر تنمو بالتدريب على الأسلوبين معا وأن اتقان أدوات الشعر العمودي هو السبيل الأمثل لإتقان كليهما. وعندما توفى بلند وشيع إلى مثواه الأخير رثيته بقصيدة ألقيتها على جمع غفير من المشيعين في المقبرة في ساعة دفنه، وأحسست أنها أحدثت وقعا يتناسب مع الحدث. ومنذ ذلك الحين بدأت أحتفظ بأكثر ما أكتب من الشعر. ومع مرور السنين وجدت أن شعري يتحسن، فما كتبته في التسعينات ليس بمستوى ما أكتبه الآن، وهذا أمر طبيعي بفضل المران وكثرة القراءة أولا، والتجارب الحياتية والشخصية ثانيا.

ويوضح الصميدعي "كنت طيلة حياتي منهمكا باهتمامات ضاغطة منها أعمالي الخاصة ومنها ما يتعلق بالشأن العام والسياسة، وهذا انعكس في الأغراض التي طرقتها في شعري وهي متنوعة شملت أغراض الشعر المعروفة كافة إلا الهجاء فترفعت عنه ولم انظم فيه إلا بضع قصائد بقيت مطوية، ولقد اخترت منها لهذا الأعمال قصيدة واحدة فقط لكي تكون مثالا على ما كتبت في هذا الباب. وعندما شغلت وظيفة الممثل الدائم للعراق في األمم المتحدة في نيويورك ابتداء من عام 2004 كان العمل الدبلوماسي يستغرق كل وقتي وجهدي واهتمامي، ومع ذلك لم أنس الشعر كليا فكان متنفسي الذي ألجأ إليه. وتشكلت لدي صداقات مع شعراء عرب في نيويورك كانوا قد الفوا جمعية أدبية باسم "الرابطة القلمية الجديدة" أسوة بالرابطة القلمية التي انشأها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة في أوائل القرن العشرين. وبعد أن تركت نيويورك استمر تواصلي مع أصدقائي الشعراء، وتكونت عندي صداقات شعرية جديدة واستمرت وتيرة النظم على ما كانت عليه بين فترات متباعدة، مع أخذي بالتنويع كما أسلفت حيث كتبت قصائد من الشعر الحر وكتبت الشعر بالإنكليزية. وعلى خلاف المتوقع، فإنني أجد سهولة في كتابة القصيدة العمودية أكثر من القصيدة الحديثة ولا أزال أميل إلى الشعر العمودي كاختيار أول لأنه يتسق مع ذائقتي الشعرية وما نشأت عليه. ثم إني دخلت في حوارات شعرية مع أصدقائي الشعراء كأن أكتب أنا أو يكتب صديق من أصدقائي قصيدة أو قطعة شعرية فيعارضها آخر من أصدقائه "بنفس الوزن والقافية عادة" ثم يدخل شاعر ثالث على الخط بقصيدة من عنده وهكذا، فتألفت عندي مجموعة من الحوارات من هذا القبيل تتسم بالطرافة وتنم عن شخصيات وأساليب المشاركين فيها وقد أفردت لها فصلا في هذا الكتاب.

ويكشف عن أن القطع الشعرية التي كتبتها بالإنكليزية، بدأت من النثر الشعري بعنوان "البدوي"، وجاءت تعقيبا على قطعة من النثر الشعري للشاعر البنغالي بندراناث طاغور (1861 ـ 1941) الذي كتب الكثير من هذا النمط الأدبي، وحصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1913، كتبت تلك القطعة على عجل ونقحتها قليلا، وأدهشني أنها أنها أحدثت وقعا كبيرا. ترجمها للعربية صديقي الشاعر والأديب صديقي طوني شعشع، وألقاها في حفل أقيم في نيويورك لتكريمي كشاعر. بعد ذلك بدأت أكتب قطعا شعرية بالإنكليزية بين الحين والآخر، وبدلا من أن أنشرها في مجموعة منفصلة، قررت أن أضمنها في هذه الأعمال.

ضمت الأعمال ستة نصوص أثبتها الصميدعي مع ترجماتها. ثلاثة منها كتبت باإلنكليزية وترجمت إلى العربية وثلاثة ترجمت بالاتجاه المعاكس. نصان (البدوي) و(الواحة) ترجمهما إلى العربية طوني شعشع وأحسن ترجمتهما. أما بقية النصوص فقد ترجمتها بنفسي، وأعطيت نفسي حق التصرف فيها لكوني صاحب النص أصلا، فالترجمة كانت أقرب إلى إعادة كتابة. وقد قسمت الأعمال إلى أبواب وجعلت لكل لون من الشعر بابا، ورتبت القصائد في كل باب بتسلسلها التأريخي. وهذه الأبواب متداخلة في الواقع لأن العديد من القصائد لها أكثر من صفة، ففي باب الإخوانيات الشعرية، مثلا، هناك قصائد مثل "طريق العمر" كان يمكن أن تكون في باب السياسيات، وهكذا. ويلاحظ من يقرأ القصائد في باب "السياسيات" التغير التدريجي في مزاج القصيدة مع الزمن. وهذا يعكس التغير في تفكيري وشعوري إزاء الوضع في العراق وآفاقه السياسية، ففي السنوات المبكرة كان التفاؤل المفرط المقترن بالمثالية والذي يقترب من السذاجة هو الغالب، ومع مرور السنين والتجارب، صرت أقرب إلى الواقعية التي يخالطها الكثير من التشاؤم ِ مع عدم الاستسلام لليأس.

ويختم الصميدعي مؤكا أن الشعر بالنسبة له غذاء فني غنى ومصدر متعة لا تنضب. وهذه الأعمال تمثل رحلة طويلة مع هذا الفن الذي نشأت معه وما يزال يسحرني ويلهمني.