طيف اللوحة في رواية 'نهاية الصحراء'

مجمل ما يمكنُ قوله عن هذا العمل الروائي للكاتب الجزائري سعيد خطيبي أنَّه محبوكُ بدراية إبداعية تستمدُ حيويتها السردية من مبدأ تكافؤ الأصوات الموزعة على رقعتها.

لا يصحُ البحث عن المطابقة بين ما يتابعُ ضمن النص الروائي والمعطيات الواقعية والتاريخية، لأنَّ العمل الفني على وجه العموم تقوم قوته الإقناعية على شكل الصياغة والترتيب للمادة المسبوكة في إطار اللوحة أو النص أو الصورة، كما أنَّ الكثافة في التعبير عن الوقائع المُحملة بالتافصيل ركن أبرز في أي مشروع إبداعي.

ربما الرواية تفوق على غيرها من الأجناس الأدبية مرونةً في إعادة تركيب المشهد الحياتي في سياق الحلقات السردية المتضافرة في بنيتها الخطابية.

وبالطبع إنَّ ما يكون تحدياً بالنسبة للروائي هو القبض على الصيغة التي يدير بها تشكيلة شخصياته ورصد حركاتها بحيثُ يقطع الطريق على ما يراودُ المتلقي من الريبة بشأن الدور الفاعل لمكون الشخصية، ويعني ذلك أنَّ الروائي قد يتموضع على أرضية القارىء معايناً النظر بعدسته.

الأمر الذي يجنبُ المادة المسرودة من الخلط الزمني والزلل.

ومن المعلوم أنَّ الأهمَّ في الخطاب الروائي ليس ما يصطلح عليه بالمروي بل من يسندُ إليه وظيفة الراوي وقد أدرك الكاتب الجزائري سعيد خطيبي هذه الحقيقة لذلك اشتغل على تقنية تعدد الرواة في عمله الأحدث "نهاية الصحراء" وما يُلاحظُ في برنامجه السردي هو اختيار ضمير الأول في الوحدات المعنونة بأسماء شخصياته الروائية أو تواريخ معينة. ويفسرُ ذلك بالرغبة في تضييق المسافة بين الراوي والمتلقي والانغماس في منطقة المتخيل.

ينطلقُ السردُ مع صوت صاحب محل "وردة الرمال" لاستئجار جهاز الفيديو والأفلام.يرشحُ مما يتواردُ على لسان إبراهيم طبيعة شخصيته المأزومة وهو يعاني من إكراهات الواقع المقهور على مختلف الأصعدة.

غير أنَّ ما يكتسب الأهمية في هذا المنحى الافتتاحي هو تمرير ماينهضُ عليه بناء الحدث الروائي إذ يستعيدُ الراوي لحظة  ارتياد شابةٍ إلى  محله تريد استئجار جهاز تشغيل الفديو حيثُ تسلمه بطاقة خطيبها دون أن يدركَ بأنَّ الموقف الذي يمرُ عليه بباسطة نتيجة انهمامه بقراءة رواية "الشيخ" لإديث مود هول يضعه بوجه تجربة قاسية.

طبعا ما يندسُ في مروية الاستهلال بمنزلةٍ أدوات ومستندات داعمة لحركة السرد وتماسكه البنائي.

روايات مُتقاطعة

تقومُ التشكيلة السردية  لرواية "نهاية الصحراء" على التعاضد بين بنية الحدث وعنصر الشخصية وما إن يمضي الشريطُ متنقلاً من وحدة إلى أخرى حتى يتأكدُ بأن ما ينزلُ في درج الحدث المؤسس هو مقتل الفتاة التي يعثرُ عاشور على جثتها في المرج وهو يرعى غنمه.

ومن المعلوم أنَّ الحدث تكتملُ دلالته وتدركُ مفاعيله في جسد النص مع توالي المواد المحكية واختراق مزيد من الشخصيات للخط السردي.

تقبعُ الجثة قيد المجهول في بداية الرواية وتغيب تفاصيلها الكاشفة لهويتها خلال استجواب عاشور الذي تُدون أقواله ولاتثير إفادته شبهة ضلوعه في الجريمة.وعندما ينفتحُ قوس السرد على رواية مفتش الشرطة حميد  المنتقل من العاصمة إلى المدينة التي تحدد بالتعين في وحدات لاحقة.

 تقتربُ عدسة الراوي من مسرح الحدث أكثر وبالتالي يتم الكشف عن اسم الضحية زكية زغوانى المعروفة بزازا وهي من بلدة نزرامة.

يُذكر أنَّ  مايقدمُ ليس إلا جانباً من شخصية مركبة تقعُ جوانبها المتوارية على مرمى تبئير الرواة مع تدوير الزوايا السردية.

يفهمُ من كلام مفتيش الشرطة أنَّ الأخير كانت له علاقة مع زازا إذ اقترح عليها الرحلة إلى تيبازا لاستجمام.والأهم من ذلك هو افتراضاته بشأنِ من يكون وراء هذه الجريمة ولايستبعد بأنَّ يكون مقتل زكية رسالة دموية وصلته من الخصوم،والأغنياء الذين لم يستسلم لإغراءاتهم.كما أنَّ صاحب الفندق ميمون بلعسل يخلف غيابه يوم وقوع الجريمة ريبةً لدى حميد.

ولاينتهي خيطُ السرد لدى مفتش الشرطة قبل تمرير ما تنهضُ عليه الحبكة وتزيدها تماسكاً إذ يشدُ القرط المتدلي من أذن الضحية انتباه المحقق بينما لا أثر للثاني من على مسرح الجريمة.

شبكة الشخصيات

 ولايستغرقُ الأمرُ كثيراً من الوقت حتى يُعلنُ المتن الحكائي عن ترابط شبكة الشخصيات التي تنضمُ منجماً إلى حلبة السرد بالحدث ومايتبعهُ من إفتراضات يكون المتلقي طرفاً في تشكيلها المُتخيل.ينصرفُ الضوء إلى صاحب النزل الذي يوميء إليه حميد في حزامه السردي.

ليس الغرضُ من تدوير رواية الحدث من زوايا مختلفة  بناء الصيغة البولوفينية فحسب بل إلى جانب ذلك يريدُ المؤلف دسَ مزيدٍ من المواد من خلال أحزمة سرديةٍ متتالية فالجديد في مروية ميمون بلعسل هو الإشارة إلى حادثة انتحار مزراقة سوالم التي كانت تشغل الغرفة 303 بجوار مكان إقامة زكية وبهذا ينزلُ ملفُ آخر في طيات الرواية الأمر الذي يُضاعف من جرعة الوصفة البوليسية في تسلسل الأحداث.

أكثر من ذلك فإنَّ الرسالةَّ الموقعة باسم بشير التي تنبسطُ في هذا المفصل تُصعدُ من شحنات درامية في أوردة النص وهكذا تنضمُ شخصيات جديدة إلى دائرة الضوء ويتراوح بندول السرد بين نورة وحميد وكمال وحليمة وميمون وبشير  بغض النظر عن التباين في الخلفية المهنية والبيئية والاجتماعية بين هؤلاء فإنَّ مروياتهم تتقاطع على خطِ الحدث.

إذ يتم التعرف على كل شخصية وتشابكها مع الشخصيات الأخرى على امتداد المساحة الروائية.يذكرُ أنَّ ملامح البيئة المؤطرة لحراك القصة لاتتشكل من خلال الوصف والتوغل في الأمكنة فقط بل تظهر الملفوظات المطبوعة بأنفاس محلية جانباً من خصوصية الأجواء وتركيبة المكان ومستويات نفسية واجتماعية للشخصيات لذلك يهتمُ سعيد خطيبي بتوظيف الأمثال الشعبية المعبرة عن مستوى الإدراك والوعي بالواقع المثقل بالأزمات التاريخية والاقتصادية والهوياتية، زيادة على ماسبق فإنَّ التناص مع الأمثال يكشفُ خلاصة التجارب الشعبية والخبرة الحياتية.

ويضيفُ خطيبي طبقة لغوية إلى متنه الروائي وذلك بإيراد الحكم المنسوبة إلى المجذوب في تلافيف السرد كما تقعُ على الإحالات الزمنية المُترابطة بتواريخ الشخصيات إذ يتعرف إيراهيم على نورة قبل  انتحار داليدا بيوم واحدٍ ويباشرُ كمال العمل في فندق الصحراء في اليوم الذي اشتركت فيه نشرات الأخبار في نعي الكوميدي لوي دو فينس.

ويزاول حميد عمله في السلك الأمني عقب تسلم أنور السادات جائزة السلام، وكان زواجه بزينب بيومٍ  قبل أن يضرب الزلزال مدينة الأصنام أو الشلف.

الركود الزمني 

لاتخلو الأشياء المذكورة في فضاء الرواية من أبعادها الرمزية لاسيما الساعة يفهمُ منها معنى الركود الزمني عندما يقايض حميد الساعة التي أهداها إليه نبيل بمبلغ من المال ليتوفر به العلاج لصديقه العائد من فرنسا كذلك فإنَّ  ساعة زازا التي تلقتها هدية من حميد ركنت في درج زينب وهي لم تلبسها إلا مرة واحدة.

ما يجدر بالإشارة في هذا المقام أن المؤلف تمكن من تفادي الوقوع بمطب الالتباسات الزمنية فهو يعينُ زمن الحدث بمقتل زكية ويتبع ذلك تغطية الوقائع بعضها ينتمي إلى داخل الزمن السردي وبعضها الآخر يقع خارجه.

لا يخطيء المتابعُ قراءة الميل نحو التجريب في رواية نهاية الصحراء سواءُ تمثل ذلك في تضايف الرواية لظل نص آخر أو لاح هذا الميل في الإيماءة إلى إمكانية أن تُلهم قصة زازا  شخصية تيجاني وهو صحافي يشتغل بجريدة الشعب بفكرة للكتابة.

مجمل مايمكنُ قوله عن هذا العمل الروائي أنَّه محبوكُ بدراية إبداعية تستمدُ حيويتها السردية من مبدأ تكافؤ الأصوات الموزعة على رقعتها.

وما يشدُ المتلقي إلى أجواء العمل أنَّ التوتر الدرامي  لايفتر لأنَّ سعيد خطيبي لايرمي   بأوراقه  على الطاولة قبل أنْ تصل حركة السرد نحو  حلقاتها الأخيرة، حيثُ يتبين بأنَّ حسينة هي التي فبركت الرسالة الموقعة باسم بشير المتهم بقتل زازا وإنَّ مزراقة لم تنتحر بل تورط كمال في قتلها.

كما أن قبر والد إبراهيم لايعرفه غير صاحب الفندق لأنَّه كان وراء تصفيته مع أنَّه شاركه في الكفاح   متخندقين في جبهة واحدة ضد المحتل.

ومن المعلوم أنَّ تبعات الثورة لاتغيب في الروايات الجزائرية فهذا أمر طبيعي لأنَّ مُعظم الروائيين العالميين منهم باتريك موديانو وأنطونيو سكارميتا يعودون إلى لحظات مفصلية في تاريخ بلادهم فصاحب "شارع الحوانيت المعتمة" لايغادر في نصوصه زمن الاحتلال النازي لبلده كما أنَّ مؤلف "رقصة النصر" يذكرنا باستمرار بالانقلاب على سيلفادور الليندي.

أخيراً فإنَّ عنوان النص يبدو مراوغاً لأنَّ مايوحي به قبل الشروع بالقراءة مغاير للمناخ الذي يسودُ في تضاعيف العمل وهذا مايؤكد مهارة الكاتب. كما أنَّ توظيف مفردة  القرط كان بنسخة تشيخوفية  علاوة على كل ماذكر فإنَّ الرواية تتناصُ مع لوحة يوهانس فيرمير الشهيرة "فتاة ذات قرط".