مناورة تفاوضية في عمق التحركات الأميركية في العراق وسوريا

ثمة سيناريو يتعلق بمضمون وأهداف تحرك القوات الأميركية في العراق باتجاه الحدود السورية، والتي لم تستفز إيران أو فصائلها.

لم تتخذ العلاقات الأميركية الإيرانية، شكلاً صدامياً بالمطلق. وفي ذات التوقيت، فقد شهدت العلاقات بين البلدين، وتحديداً خلال الأشهر الماضية، ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الباردة. فالمتابع يُدرك بأن استعراض القوة في الجغرافية المشتركة بين واشنطن وطهران، سواء في سوريا أو العراق، أو التحركات الاستعراضية في مياه الخليج العربي، لا تأتي إلا في إطار التفاوض بأسقف مرتفعة، ترجمتها الحقيقية والواقعية، جاءت عبر محادثات سرية بين الجانبين، نتج عنها الإفراج عن مسجونين أميركيين معتقلين في السجون الإيرانية، مقابل الإفراج عن أرصدة مالية لإيران في بنوك كوريا الجنوبية.

واقع الحال يؤكد بأن العلاقات الأميركية الإيرانية قد شهدت جُملة من المتغيرات، لكنها دائما ما تأتي في أطر مدروسة يُمنع انفلاتها إلى مناحي تصادمية. أولى هذه المتغيرات كانت هجمات الفصائل المدعومة إيرانياً، والتي استهدفت القواعد الأميركية في سوريا. والمتغير الثاني جاء عبر الحشود الأميركية في مياه الخليج، وما قابلها من حشود إيرانية. أما المتغير الثالث كان من خلال الصفقة التي تمت بين واشنطن وطهران، والتي تم بوجبها الإفراج عن السجناء الأميركيين لدى إيران مقابل الإفراج عن الأموال الإيرانية. أما المُتغير الرابع فقد جسدته التحركات الأميركية في العراق، لكنها تحركات لم تستفز إيران أو فصائلها في العراق وسوريا.

ربطاً بالمتغير الرابع، فإن تحرك القوات الأميركية في العراق أثار مخاوف الكثير من المُحللين، الذين وصفوا تلك التحركات بالغامضة، والتي من الممكن أن تكون تمهيداً لقطع الطرق البرية بين سوريا والعراق، ولاحقا استهداف التواجد الإيراني في سوريا بشكل مباشر. ليبرز ضمن ما سبق تساؤل جوهري: لماذا لم تُحرك إيران ساكناً إزاء التحركات الأميركية في العراق؟ وهل ثمة تطمينات أميركية لإيران بعدم استهدافها أو استهداف فصائلها في سوريا والعراق؟

تقارير كثيرة أكدت أن القوات الأميركية أرسلت مركبات مدرعة إلى الحدود السورية، حيث دخلوا من الجانب العراقي وتمركزوا بالقرب من مدينة القائم المتاخمة لمدينة البوكمال الحدودية على طول نهر الفرات، وتمركز نحو 2500 جندي أميركي في قاعدة عين الأسد الجوية، ودخلوا عن طريق العراق. كما أجرى التحالف بقيادة الولايات المتحدة مناورات عسكرية بمشاركة طائرات مقاتلة في قاعدة "كونيكو" الواقعة في الأطراف الشمالية لمدينة دير الزور.

التحركات الأميركية السابقة لم تنظر إليها إيران أو أيًّ من فصائلها في العراق وسوريا على أنها تهديداً مباشراً لها، وبالتالي قد تكون التحركات الأميركية الاخيرة بالتنسيق مع إيران، بمعنى ألا تتدخل إيران أو فصائلها بهجمات ضد القوات الأميركية، خلال التموضع الأميركي الأخير في سوريا، ليكون الهدف الرئيس لواشنطن من تلك التحركات هو روسيا.

في المقابل، فإن الهدف المعلن لكل من روسيا وإيران هو العمل على إخراج القوات الأميركية من سوريا، ولعل تكثيف الهجمات ضد القوات الأميركية في سوريا، من قبل الفصائل المدعومة إيرانياً، تُترجمه الوثائق السرية التي سُربت خلال الأسابيع الماضية، والتي أماطت اللثام عن خطة إيرانية وبالتعاون مع روسيا، لشن هجمات ضد القوات الأميركية في سوريا.

يلاحظ بشكل جليّ، بأنه ومع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، فقد تكثفت الهجمات ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا، وتحديداً خلال الأشهر الأخيرة. فقد هاجمت طائرات من دون طيار القواعد الأميركية في سوريا، ورد الجانب الأميركي بشن غارات جوية على الجانب السوري من الحدود العراقية، وفي أعقاب ذلك، فقد حذر بايدن إيران من أن الولايات المتحدة ستعمل بقوة لحماية الأميركيين.

ورغم الهجمات والهجمات المضادة بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن تلك الاستهدافات العسكرية المتبادلة، لم تؤد إلى تفاقم العلاقات المتوترة بينهما في الأصل، على الرغم أيضاً من تعثر محاولات إحياء الاتفاق النووي، واستمرار إيران بـ إمداد روسيا بطائرات مسيرة، ودعم الأخيرة في الحرب الأوكرانية.

ثمة سيناريو يتعلق بمضمون وأهداف تحرك القوات الأميركية في العراق باتجاه الحدود السورية، والتي لم تستفز إيران أو فصائلها. هو سيناريو تُحدده عمليات التنسيق بين واشنطن وطهران، إبان التفاهمات السرية بينهما، والتي تضمنت في جزء منها توقف إيران عن إمداد روسيا بالمُسيرات. نتيجة لذلك قد يكون الهدف الاستراتيجي للتحركات الأميركية، هو تغيير قواعد الاشتباك مع روسيا في سوريا، وربما مستقبلاً قطع طريق الإمداد الإيراني باتجاه سوريا ولبنان، عبر الأراضي العراقية.

غموض الاتفاق الأميركي الإيراني الأخير، وبصرف النظر عن مضمونه، إلا أنه لا يعنى فك الارتباط بين العلاقات الروسية الإيرانية، إذ لا تزال تلك العلاقة بمثابة الورقة التي يتم توظيفها من قبل إيران وروسيا عند كل مناورة تفاوضية مع الولايات المتحدة.