حقوق الإنسان، الكابوس الذي يطارد الزعيم

في باريس، وفي العاشر من ديسمبر عام 1948 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم (17000) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو وثيقة تاريخية هامة في تاريخ حقوق الإنسان، صاغه ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم، وقد جاء في ديباجته أن الاعتراف بكرامة الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم، وإنه من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم، وأن الدول الأعضاء تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها.

وبنظرة على مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا نكتشف فيها مطلقاً ما يسيء إلى أي إنسان مهما كان موقعه، وعلى وجه الخصوص الحكام، وهم المخاطبون أساساً بهذا الإعلان، فهم الذين بيدهم جميع سلطات القهر والقوة والجبروت، وهم الذين يأمرون باستخدامها طوال الوقت ضد شعوبهم، وهم الذين يقعون تحت التناقض الصارخ بين توقيعهم على الإعلان والموافقة على بنوده والتعهد بتنفيذها وبين رغبتهم الجارفة في انتهاكه ومخالفة جميع بنوده لأسباب ذاتية عجزت الشعوب عن فهمها كما عجزت الأمم المتحدة عن إدراكها.

لقد اشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ثلاثين مادة هي المبادئ الأساسية التي يحتاجها الناس في أي مكان لتكون حياتهم طبيعية كما أرادها الله لهم، ومنها:

أن لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه. ولا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة. والناسُ جميعًا سواءٌ أمام القانون، وهم يتساوون في حقِّ التمتُّع بحماية القانون دونما تمييز. ولا يجوز اعتقالُ أيِّ إنسان أو حجزُه أو نفيُه تعسُّفًا. ولكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير واعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين بأيَّة وسيلة. ولا يجوز تعريضُ أحد لتدخُّل تعسُّفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمسُّ شرفه وسمعته. ولكلِّ شخص حقٌّ في أن يحميه القانونُ من مثل ذلك التدخُّل أو تلك الحملات. لكلِّ فرد حقٌّ في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة. ولكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده. ولكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية.

ومن المبادئ الهامة أيضاً: إرادةُ الشعب هي مناطُ سلطة الحكم، ويجب أن تتجلىَّ هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريًّا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرِّي أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرِّية التصويت. ولجميع الأفراد، دون أيِّ تمييز، الحقُّ في أجٍر متساوٍ على العمل المتساوي.

وقد درج حكامنا أثناء سفراتهم الخارجية على التهرب من أسئلة الصحفيين الغربيين المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها أجهزة هذا الزعيم أو ذاك، حتى أن أحدهم حين واجهه أحد الصحفيين بالسؤال المحرم عن حقوق الإنسان فقد أعصابه تماماً وخرج عن المألوف وتوجه للصحفي بعتاب حول تركيزه على حقوق الإنسان معترفاً على الملأ بانعدام التعليم الجيد، وتدهور الخدمات الصحية، وتفشي البطالة، وحرمان المواطن من المسكن الآدمي، وكأن تلك الأشياء ليست من حقوق الإنسان الأساسية، فظهر أمام العالم كمن أراد تكحيلها فعماها.

وقد دأبت المنظمات الأممية والعالمية المختصة بحقوق الإنسان على إصدار تقارير دورية مليئة بانتهاكات لا حصر لها وتحوز بلداننا بكل أسف على مراكز متقدمة فيها بالتنافس مع الصين وكوريا الشمالية، ونادراً ما يسمع أحد عن انتهاكات ضد الإنسان في أميركا ودول الغرب بصفة عامة، وكأن حكامنا قد أدمنوا تلك الانتهاكات ووصلوا لمرحلة استحالة الاستغناء عنها، فما هو السبب الذي يدعوهم إلى تحمل كل هذه الضغوط الدولية والتعايش معها دونما أدنى محاولة للتخلص منها؟

ببساطة شديدة جداً، أميركا ودول أوروبا والدول الديمقراطية بصفة عامة لا نجد فيها تلك الظاهرة لأنها دول مؤسسات وأنظمة وقانون، تُدار بالقانون، وتعيش شعوبها تحت حمايته، لا يتم استثناء أحد أمامه، على النقيض تماماً منها تلك الدول التي لا تخلو منها أبدا تقارير انتهاكات حقوق الإنسان، فهي دول يحكمها فرد واحد، جاء ليبقى مدى الحياة، يرى أنه هو الدولة، وهو القانون، لا يعترف بالتداول السلمي للسلطة، ولا يخضع للحساب والمساءلة، ولا يسمح لمن يعارضه بالحياة، ولا لمن ينافسه بالوجود، ولذلك حين تصل إلى سمعه تلك الكلمتان (حقوق الإنسان) تراه وكأنه مسه شيطان من الجان.

إن تطبيق القانون على الجميع بلا تمييز، كفيل أن ينهي كل تلك الانتهاكات، ويبيض الصفحات لدى كل المنظمات، ولكن ثمن ذلك أن يكون الحاكم إنساناً من جنس البشر وليس إلها، فالمأساة أن رجال الأديان الثلاثة لأغراضهم الخبيثة، يبثون في روع الحكام أن الله هو الذي أختارهم وليس الشعب، فيتلقفون ذلك النفاق الرخيص، ويتحررون عواقب التبعات، ويتناسون الضمير والأخلاقيات، ويتصرفون بصفتهم ظل الله في الأرض، فيبطشون بإذنه، ويعذبون بعونه، ويظلمون بأمره.

ولأن دولة القانون هي التجسيد العملي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فمن المستبعد أن نسمع يوماً عنها، ومن غير المنتظر أن يتمكن المواطن من العيش في ظل القانون، فلا ظل اليوم إلا ظل الله القابض على البشر والحجر.