الدكتورة نادية لمودي: علم الاجتماع مدخل أساسي لتحليل الخطاب الدرامي

الكاتبة تصدر مؤلفا تحليليا يحمل عنوان 'الهويات الذكورية والأنثوية في وسائل الإعلام المغربية' ويحتوي دراسة حالة المسلسلات التلفزيونية المحلية.

الرباط - أصدرت مؤخرا الدكتورة نادية لمودي كتابا بعنوان "الهويات الذكورية والأنثوية بين الاستمرارية وإعادة التشكيل في وسائل الإعلام المغربية: حالة المسلسلات المغربية".
ويُعد هذا المؤلف تحليلا دقيقا وموثقا يكشف الآليات المعقدة الكامنة وراء تمثلات المجتمع المغربي، إذ يركز على الكيفية التي تُسهم بها المسلسلات التلفزية المغربية في ترسيخ واستمرار الأنماط الجندرية المسبقة. وتكشف هذه الدراسة، التي تم إنجازها بقدر كبير من الرصانة والذكاء، عن الأهمية الحاسمة لهذه الوسائط في بناء وإعادة إنتاج الهويات الجندرية في مجتمعنا.
ومن بين هذه الهويات، تحتل الهويات المرتبطة بالنوع الاجتماعي، أي الذكورية والأنثوية، مكانة مركزية، إذ تشكل تصوراتنا وتوقعاتنا وتفاعلاتنا اليومية. ويُعتبر المغرب أرضا غنية بالتنوع الثقافي والاجتماعي، وتنعكس هذه الدينامية المركبة بشكل خاص من خلال المسلسلات التلفزية، التي تُعد أعمالا سردية جذابة تستهوي المخيال الجماعي وتُشكّل الخطابات الاجتماعية.


وفي هذا السياق، كان لموقع "ميدل إيست أونلاين" حوار مع الكاتبة المغربية نادية لمودي حول هذه الدراسة التحليلية، وفيما يلي نص الحوار:

ما الذي دفعك لدراسة الهويات الجندرية في المسلسلات الرمضانية المغربية من منظور سوسيولوجي في البدء؟
إن اختياري لدراسة الهويات الجندرية في المسلسلات الرمضانية المغربية لم يكن اختيارا اعتباطيا أو نابعا من مجرد اهتمام عابر، بل جاء نتيجة تفكير عميق وتأمل مطول في طبيعة التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي، وفي الدور المتنامي الذي تلعبه وسائل الإعلام في إعادة تشكيل التصورات الجماعية للهوية، ولا سيما في بعدها الجندري.
لقد انطلقتُ من قناعة راسخة بأن هذه المسلسلات لا تُنتَج في فراغ، بل تنبع من سياقات اجتماعية وثقافية محددة، وتُعيد بدورها إنتاج تلك السياقات، مع ما تحمله من رموز ودلالات وتصورات عن الأنوثة والذكورة. من هذا المنطلق، لم يكن اختياري لهذا الموضوع عشوائيا، وإنما جاء ثمرة مسار بحثي تأملي يربط بين الظواهر الإعلامية والرهانات السوسيولوجية الكبرى المتعلقة بالهوية، والتمثلات، والتغيرات القيمية داخل المجتمع المغربي المعاصر.
إن هذا المشروع البحثي هو محاولة جادة لرد الاعتبار لتحليل الإنتاج الدرامي المغربي، باعتباره نصا اجتماعيا وثقافيا يستحق أن يُقارب بأدوات علمية دقيقة، ويُفكك من منظور نقدي يُسائل تمثلات الجندر، ويكشف عن آليات إنتاج المعنى، وحدود التغيير أو إعادة إنتاج النمط داخل هذا الفضاء الرمضاني المشحون بالدلالات.
من هنا، تبرز أهمية اللجوء إلى علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي كمدخلين أساسيين لتحليل الخطاب الدرامي، ورصد آليات التلقي، وفهم تمثلات الهوية الجندرية في علاقتها بالسياق الثقافي والرمزي للمجتمع. فالسوسيولوجيا تُتيح أدوات لفهم البُنى الاجتماعية التي تُنتج هذه التمثلات، بينما يُمكّن علم النفس الاجتماعي من تحليل العلاقة بين الفرد والرسائل الإعلامية، وكيفية تأثيرها في تشكيل تصوراته لذاته وللآخر.

كيف ساهمت سوسيولوجيا النوع الاجتماعي في تحليلك لتمثيلات الذكورة والأنوثة في المسلسلات التلفزيونية؟
لقد شكّلت سوسيولوجيا النوع الاجتماعي الإطار النظري والمنهجي الأعمق الذي استندتُ إليه في تحليل تمثيلات الذكورة والأنوثة في المسلسلات التلفزيونية المغربية، وذلك لما تتيحه من أدوات مفهومية وقدرات تحليلية لفهم البنى الرمزية والاجتماعية التي تُنتج وتُعيد إنتاج الفوارق الجندرية داخل الخطاب الإعلامي.
من خلال هذا المنظور، لم أتعامل مع الذكورة والأنوثة كمجرد معطيات بيولوجية أو صفات طبيعية، بل كمُنتجات اجتماعية وثقافية يتم بناؤها تاريخيا داخل منظومة من العلاقات الرمزية والتراتبيات السلطوية. فقد مكّنني هذا التوجه من الكشف عن الكيفية التي تُكرّس بها المسلسلات التلفزيونية أنماطا معينة من السلوك والتفكير والانفعالات تُنسب لكل من الرجل والمرأة، وكيف يتم من خلالها تطبيع أدوار جندرية تقليدية أو محاولة التمرد عليها في بعض الحالات.
في هذا السياق، استعنت بمفاهيم مركزية في سوسيولوجيا النوع، أبرزها مفهوم "الهيمنة الذكورية" كما طوّره بيير بورديو، حيث تُنتج السلطة الرمزية تمثيلات غير متكافئة للجنسين، تُمنح فيها الأفضلية دائما للعنصر الذكوري، فيما يُسمى "الأداء الجندري" أو "التمثيل الأدائي للنوع الاجتماعي"، أي تلك القيمة التراتبية التي تُسند اجتماعيا إلى الذكورة مقابل الانتقاص الرمزي من الأنوثة. وقد ساعدني هذا المفهوم على تفكيك التمثيلات التي تُعيد إنتاج التصورات الذكورية المُهيمنة داخل المسلسلات الرمضانية، من خلال شخصيات الرجال الأقوياء المتحكمين، في مقابل نساء خاضعات، مضطهدات، أو غير مكتملات اجتماعيا دون ارتباطهن برجل.
كما شكّل مفهوم "الأداء الجندري" أو "التمثيل الأدائي للنوع الاجتماعي" كما طورته جوديث باتلر مدخلا نظريا بالغ الأهمية في تحليلي، حيث تُعرّف الجندر ليس كهوية ثابتة، بل كأداء اجتماعي متكرر تُفرض من خلاله الأدوار والانتظارات المجتمعية على الأفراد. وهذا الفهم سمح لي بتحليل كيف يتم في المسلسلات "أداء" الأنوثة والذكورة عبر اللغة، اللباس، الجسد، والعلاقات الاجتماعية، وكيف أن هذا الأداء يعيد إنتاج التصنيفات الجندرية، لكنه يفتح أيضا إمكانيات للانزياح عنها أو كسرها.
علاوة على ذلك، استعنت بمفاهيم مرتبطة بالبناء الثقافي للصور النمطية، والتي تشتغل بوصفها آليات رمزية تبلور تصورات جاهزة عن الرجولة والأنوثة. فقد كشفتُ عن كيف أن هذه الصور تُرسّخ، في بعض الأعمال، ثنائية المرأة "الصالحة" مقابل المرأة "الفاسدة"، أو الرجل "القوي" مقابل الرجل "الضعيف"، مما يساهم في بناء خيال اجتماعي غير متوازن، يعكس ويغذي في الآن ذاته النظام البطريركي القائم.

حدثينا عن أبرز الصور النمطية الجندرية التي رصدتها في المسلسلات، وكيف تعكس البنى الاجتماعية في المغرب؟

في إطار تحليلي للهويات الجندرية كما تجلّت في المسلسلات الرمضانية المغربية، رصدتُ حضورًا لافتًا ومكثفًا لعدد من الصور النمطية التي لا تنفصل عن البنى الاجتماعية والثقافية العميقة التي تؤطر النسق المجتمعي المغربي. هذه الصور، وإن بدت أحيانًا في ثوب حديث أو مُغلّف بخطاب المساواة، فإنها غالبًا ما تعيد إنتاج أنماط تقليدية تكرّس تفاوتًا جندريًا واضحًا، وتُشرعن لا توازنًا راسخًا في تمثيل الذكورة والأنوثة.
من أبرز هذه الصور، نذكر أولًا صورة المرأة المضحية، التي تُجسّد باستمرار دور الأم الحنون أو الزوجة الوفية، التي تتنازل عن طموحاتها وذاتها في سبيل الأسرة أو الأبناء. يُقدَّم هذا النموذج كمعيار للأخلاق والفضيلة، مما يعيد إنتاج خطاب تقليدي يُحمّل المرأة مسؤولية التماسك الأسري، ويضعها في موقع خضوع دائم لقيم التضحية والامتثال، بينما يُقلّص من حضورها كفاعل مستقل في المجال العام.
في المقابل، تظهر صورة الرجل القوي، الحاسم، وصاحب القرار، والذي لا يُسائل ولا يُنتقد، بل يُفترض فيه أن يكون قائدًا بالفطرة. هذه الصورة تعكس بوضوح الامتداد الرمزي لمفهوم الهيمنة الذكورية كما بلوره بيير بورديو، حيث يتم تثبيت الذكورة كمرجعية معيارية للسلطة والشرعية، مقابل تأطير الأنوثة في فضاءات الانفعال والعاطفة والتبعية.
من الصور الأخرى المتكررة، نرصد صورة المرأة المستقلة أو المتمردة، والتي غالبًا ما تُربط في الخطاب الدرامي بالأنانية، أو الانحراف القيمي، أو العقم العاطفي، فيتم تأثيمها ضمنيًا كلما حاولت تجاوز الأدوار التقليدية. هذه الصورة تكشف عمق الفالونس التفاضلية للجندر**،** حيث يُنظر إلى تحرر المرأة لا بوصفه تطورًا إنسانيًا، بل كمصدر تهديد للمنظومة القيمية المحافظة.
في السياق ذاته، كثيرًا ما يُقدَّم الرجل الحساس أو الذي يُبدي هشاشة نفسية في صورة سلبية أو كاريكاتورية، مما يدل على ضيق الفضاء الرمزي المتاح للهويات الذكورية البديلة. فالرجولة، كما تُصوَّر في هذه المسلسلات، مرتبطة بالصلابة، الغلبة، والتفوق الاقتصادي أو الرمزي، في حين تُختزل الأنوثة في الجمال، الرقة، والخضوع العاطفي، أو في النقيض التام المتمثل في الشر والمكر، كما هو الحال في بعض الشخصيات النسائية التي توصف بالوصولية.
هذه التمثلات لا تنفصل عن البنى الاجتماعية المغربية، التي ما تزال تتأرجح بين خطاب حداثي يسعى لتكريس المساواة، وواقع ثقافي تُثقل كاهله الإرث الأبوي وتقاليد التراتب الجندري. إن المسلسلات هنا لا تعكس الواقع فحسب، بل تُعيد تشكيله وتكريسه من خلال خطاب رمزي يتمتع بقوة التأثير الجماهيري، مما يجعل من تحليلها مدخلًا أساسيًا لفهم علاقة السلطة بالهوية، والجندر بالتمثيل، في السياق المغربي.

إلى أي حدٍّ ترين دور المسلسلات التلفزيونية كمرآة للتحولات الاجتماعية والثقافية في المجتمع المغربي؟

تلعب المسلسلات التلفزيونية، خصوصًا تلك التي تُعرض خلال شهر رمضان، دورًا جوهريًا في عكس التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعرفها المجتمع المغربي. فهي لا تكتفي بإعادة إنتاج الواقع، بل تسهم أيضًا في بنائه الرمزي، عبر تمثيلات تُعيد تشكيل القيم والأدوار والهويات في سياقات جديدة. وتكتسب هذه الأعمال أهميتها لا فقط من انتشارها الواسع وتأثيرها الجماهيري، بل أيضًا من كونها تمارس وظيفة مزدوجة: مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، وأداة تشكّله عبر خطاب درامي مشبع بالإيحاءات الثقافية.
ومن خلال التحليل السوسيولوجي لهذه الأعمال، يتبين أن المسلسلات الرمضانية أصبحت أكثر وعيًا بالقضايا الآنية التي تهمّ الجمهور، مثل الأدوار الجندرية، التحولات الأسرية، البطالة، الهجرة، العنف الرمزي، وتوتر العلاقات بين الأجيال. وهذا يُبيّن أن اختيار المواضيع في هذه الأعمال لا يتم اعتباطيًا، بل غالبًا ما يكون منسجمًا مع الواقع الاجتماعي ويعكس الهموم اليومية للمشاهد المغربي. بهذا المعنى، تُعدّ المسلسلات واجهات ثقافية ترصد الحراك المجتمعي وتعبر عنه، سواء بشكل نقدي أو تبريري، وفق توجهات المنتجين والسياق العام للإنتاج.
إن هذا التفاعل بين الخيال الدرامي والبنى الواقعية يجعل من المسلسل المغربي مادة خصبة للبحث السوسيولوجي، حيث تتقاطع التمثيلات الرمزية مع التغيرات القيمية، وتُفضي إلى فهم أعمق لتوترات الهوية، وصراع القيم، وجدلية التقليد والحداثة في المجتمع المغربي المعاصر.

هل وجدتِ أن المسلسلات تعزز التفاوتات الجندرية أم تساهم في تحديها؟

يتّضح أن التمثيلات الجندرية لا تسير في اتجاه واحد، بل تتأرجح بين إعادة إنتاج التفاوتات الجندرية وتكريسها من جهة، وبين محاولات خجولة أو رمزية لتحديها وتفكيكها من جهة ثانية. ويُظهر هذا التذبذب طبيعة الحقول الرمزية التي تتحرك فيها هذه الأعمال، في سياق اجتماعي وثقافي متحوّل، تُراعي فيه الإنتاجات التلفزيونية التوازن بين استرضاء الجمهور، والحفاظ على مقومات الجذب الجماهيري، دون الاصطدام الصريح بالمنظومة القيمية السائدة.
في هذا السياق، يقدم مسلسل "لالة فاطمة" نموذجًا مثيرًا للاهتمام. فشخصية الزوج لا تُجسّد صورة الرجل العنيف أو المتسلط، بل تعكس النموذج التقليدي للرجل المغربي المحافظ، الذي يرتكز دوره الأسري على العمل والإنفاق واتخاذ القرار، في حين يظل الفضاء المنزلي من اختصاص المرأة. أما لالة فاطمة، فقد شهدت شخصيتها تحوّلًا جزئيًا في الموسم الثاني، حيث حاول صنّاع المسلسل إضفاء لمسة "تحديثية" عليها، من خلال تغيير مظهرها التقليدي وجعلها سيدة أعمال تُنشئ مشروعًا خاصًا بها في مجال إنتاج الحلويات**.** غير أن هذا التغيير بقي سطحيًا وشكليًا، إذ استمرّ ربطها بالمجال الغذائي والمطبخي، وهو ما يُعيد إنتاج الصور النمطية المرتبطة بالمرأة، ككائن منزلي، تُقاس كفاءته من خلال الطبخ والعناية بالأسرة. فحتى حينما "خرجت" لالة فاطمة إلى عالم المقاولة، لم يُتح لها المجال لخرق الفضاءات الاقتصادية الذكورية، بل بقيت حبيسة القطاع الذي ينسجم مع "أنوثتها التقليدية"، مما يدل على أن محاولة التحديث بقيت محصورة داخل منطق التدرج المحافظ.
أما في مسلسل "صلاح وفاتي"، فإن تمثيل العلاقة الزوجية ينحو منحى أكثر معاصرة، إذ تظهر شخصية "فاتي" في موقع السيطرة والحزم، وهو ما قد يُفهم ظاهريًا كنوع من تفكيك النموذج الأبوي الكلاسيكي. غير أن هذه التمثيلات تظل محكومة بنوع من التحايل الرمزي على الأدوار الجندرية، إذ تُقدَّم "فاتي" كامرأة قوية، لكنها لا تخرج عن إطار الصورة النمطية للمرأة التي تُعرِّف ذاتها من خلال نظرة الرجل إليها. فهي، رغم حضورها الطاغي وسلطتها الظاهرة، تُصوَّر باستمرار كمنشغلة بمظهرها الخارجي، وتبدو في حاجة دائمة لتأكيد حب زوجها وجاذبيتها في عينيه. وبالتالي، فإن هذه "الهيمنة الأنثوية" تُفرغ من بعدها التحرري، لأنها مرتبطة بالتصالح مع معايير الجاذبية الذكورية وطلب القبول الذاتي من خلال عين الرجل.
هذان المثالان يُظهران أن المسلسلات المغربية، وإن بدت في بعض جوانبها مُتفتّحة على التحولات الجندرية، فإنها في العمق لا تتجاوز عتبة التفكيك الرمزي المحدود، وتظلّ وفية للبُنى الاجتماعية التي تُكرّس الاختلاف القيمي والتفاضلي بين الذكورة والأنوثة، كما حلّلته جوديث بتلر من خلال مفهوم الأداء الجندري، وبيّنه بيير بورديو في نظريته حول الهيمنة الذكورية. وهكذا، تبقى هذه الأعمال مرآة تعكس التحولات ولكن أيضًا الممانعات، وتعبّر عن مجتمع في مفترق طرق بين التقليد والتغيير.

والكاتبة نادية لمودي حاصلة على دكتوراه في علم الاجتماع، وتُدرّس مادتي علم الاجتماع وعلم النفس بكلية الحسن الثاني، وهي متخصصة في مجال التواصل واللغة والمصطلحات، وتُدرّس منذ سنة 2010 مهارات التواصل الناعم والكتابة الصحفية.