المجتمع الدولي يقوّض الميليشيات الليبية
من الممكن حل الكثير من عقد الأزمة الليبية ووضعها على طريق التسوية، لو أدرك المجتمع الدولي مبكرا حجم المخاطر التي يمثلها انتشار الميليشيات المسلحة في طرابلس، لكن يبدو أن العالم كان بحاجة لوقوع خسائر كبيرة في الأرواح والمنشآت ليدرك وجود ضرورة لرفع سيف العقوبات على رقبة الكتائب المسلحة.
الخطوة التي أقدمت عليها الأمم المتحدة ثم الولايات المتحدة أخيرا، بفرض عقوبات على قائد ما يسمى بـ "لواء الصمود" صلاح بادي، تحمل دلالات عديدة لغيره من قادة العصابات المسلحة، والدول التي تقف خلفهم، وتعد مكملة لخطوة مماثلة في سبتمبر الماضي استهدفت إبراهيم الجضران، عندما قامت ميليشياته بتكرار الهجوم على منطقة الهلال النفطي.
اللجوء إلى سلاح العقوبات جاء بعد أن بُح صوت بعض القوى بشأن تسريع عملية إنهاء عصر هؤلاء القتلة، والمطالبة بالتعامل معهم بقسوة باعتباره المدخل الصحيح لتسوية الأزمة الليبية، لأنهم أصبحوا قوة فوق القانون، وغالبية تحركاتهم تتم بتنسيق وتعاون مع قيادات تتبوأ مناصب رسمية في الدولة، ويتحكمون في كثير من المفاتيح السياسية والاقتصادية والأمنية.
التضخم الذي ظهر على الميليشيات جعل من الصعوبة التخلص منها، وأفضى إلى تعامل البعض مع قادتها بحسبانهم سندا أمنيا، وآخرون لجأوا إليهم للاستقواء على قوى أخرى منافسة سياسيا، وهناك دول وجماعات وظفتهم بغرض استمرار التدهور في ليبيا، ومنع الوصول لدرجة عالية من الهدوء، والابتعاد عن فكرة تبني شيوع الأمن والسلام.
المشكلة أن جهات كثيرة وجدت في الكتائب المسلحة أداة للقوة الباطشة، تمنع تفعيل المؤسسة الشرطية، وتحول دون توحيد المؤسسة العسكرية، وسعوا لتقديم العصابات كفروع أمنية رسمية لتعطيل التوجهات الرامية لوقف عصر الميليشيات، ومعاملة قادتها كمجرمي حرب.
الرؤية التي حكمت النظر إليهم كأداة مهيمنة وسادت لسنوات ومنحتهم حضورا قويا، فقدت بريقها لدى قوى كثيرة، لأنها تسببت في إحراج البعض وتوجيه أصابع الاتهام إليهم ووصمتهم بأنهم يحرضون على نشر الفوضى، ويغضون الطرف عن الانتهاكات التي ترتكب، وهو ما ضاعف من خطورة الصمت على كثير من التجاوزات المسلحة في طرابلس.
الصمت والتقاعس والتراخي والتواطؤ، أدى إلى مشكلات تعاني منها الدول التي تحاول تقديم مقاربات إيجابية لحل الأزمة، فأحد العراقيل التي حالت دون مخرجات مؤتمر باريس كانت الميليشيات، وهم أيضا من أبرز المطبات التي تواجه نتائج مؤتمر باليرمو، الأمر الذي جعل قوى كثيرة تعيد النظر في دورهم، لأن أي مبادرة جادة سوف تصطدم بهم.
اشهار سلاح العقوبات في وجه بادي والجضران وغيرهما، يمكن أن يكون رادعا لميليشيات كثيرة، إذا جرى تفعيله على الأرض، وعدم الاكتفاء بإصدار قرارات لمجرد إبراء الذمة، أو استخدامها وقت أن تمثل الكتائب المسلحة تهديدا مباشرا على مصالح بعض القوى الكبرى.
الخطوة التي لقيت ترحيبا كبيرا من دوائر ليبية تستوجب تعميمها أيضا على باقي الميليشيات، فكل من بادي والجضران، يقف معهما طابور من الأسماء التي وجدت في استمرار تدهور الأوضاع غذاء اقتصاديا وسياسيا وأمنيا لها، وتسعى بكل السبل وراء تخريب التحركات التي تهدف إلى الوصول لمرحلة صامدة من الترتيبات الأمنية.
الأهمية الرئيسية لمعنى العقوبات تكمن في الإشارات التي تحملها، وفي مقدمتها أن الفوضى المسلحة السائدة منذ سنوات حان وقت وقفها، وأن العالم يعي الخسائر التي قادت إليها، وبدون تحجيم هؤلاء ومنع تكرار ممارساتهم القاتمة لن يكون هناك أفق إيجابي لحل الأزمة الليبية.
الانتخابات التي بشر بها غسان سلامة المبعوث الأممي، في النصف الأول من العام المقبل، لن تكون قابلة للتنفيذ ما لم تصمت مدافع هؤلاء تماما، وتتخذ الإجراءات الصارمة التي تحول دون تأثيرهم على عملية سياسية يزداد اقتناع المجتمع الدولي بضرورة أن تأخذ حظها من المساندة، ومنع الأخطاء التي عاقت نجاح بعض المبادرات الجادة.
الرسالة الأهم أن الدول التي وقفت وراء دعم ظاهرة الميليشيات وقامت بمدها بالأسلحة واعتمدت عليها كأدوات سياسية في الأزمة، سوف تفقد حضورها الظاهر، ولعل توقيت فرض العقوبات على صلاح بادي المعروف بعلاقاته الوثيقة بكل من تركيا وقطر، يؤكد أن مؤامرات اشعال الحروب في ليبيا يمكن أن يتم كشف حيلها وألاعيبها.
الخطوة جاءت عقب ربط بين تحركات بادي المفاجئة في طرابلس، الأسبوع الماضي، وخيبة الأمل التي ظهرت على وفدي أنقرة والدوحة في مؤتمر باليرمو لحل الأزمة الليبية، وأرادتا الإيحاء بأن من يسعون نحو تهميشهما سوف يواجهون بتحدي الكتائب المسلحة، بعد أن باتت تمثل الذراع الأمني المغمور بغطاء سياسي خارجي.
توسيع نطاق العقوبات تدريجيا، يبعث على الاطمئنان، ويمكن أن يكون وسيلة مهمة لتهيئة أجواء مناسبة لحل الأزمة، لكنه يستلزم التوصل لتفاهمات عميقة حول ترتيبات أمنية متماسكة في طرابلس، ووجود قوة نظامية على الأرض، تسد الفراغ الحاصل في تأمين المطارات والمؤسسات الرسمية.
الشروع في مساعدة مصر لمواصلة جهودها لتوحيد المؤسسة العسكرية، خطوة حيوية، لأنها الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الكثير من الأمور، وهو ما تحاول بعض الجهات تعطيلها، كي يستمر الانفلات وتتواصل الفوضى، وتصبح هناك حجج لدى البعض لاجهاض تحركات المجتمع الدولي الراغبة في تسوية الأزمة الليبية، فقد استشعرت قوى عديدة بخطورة تمدد العصابات المسلحة.
التقويض الحقيقي للميليشيات من خلال الدفع نحو وجود مؤسسة عسكرية موحدة ومنضبطة وقادرة على حفظ الأمن بمعناه الواسع، والذي يعمل من أجل الدولة الليبية، وليس لتقوية أي جبهة سياسية، تريد أن تضع قدميها في الحكم بعيدا عن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
بلورة رؤية دولية واضحة للتسوية، أصبح أقرب من أي وقت مضى، ما يستفز الميليشيات والجهات الداعمة لها، ومتوقع أن تشهد طرابلس المزيد من المعارك، فقادة الكتائب المسلحة يدركون أن ترتيب أوضاعهم لن يكون في صالحهم، لذلك لن يستسلموا بسهولة، وربما يخوضون معارك جماعية للدفاع عن وجودهم، ففرض عقوبات على بادي سريعا، عقب خرقه وقف إطلاق النار في طرابلس، يعني أن مرحلة جديدة من الانخراط الدولي قد بدأت ملامحها في الظهور.