وثيقة قرطاج تضيع في متاهة حسابات الأحزاب السياسية

بعد خمسة أشهر من اعلان وثيقة قرطاج 2 لا نتائج تشير إلى امكانية حلحلة الأزمة السياسية والتوافق على حل ينهيها.

خلافات عميقة تدفع وثيقة قرطاج 2 للانحراف عن مسار الحل
حسابات سياسية تقفز على أولويات المرحلة الحرجة
الأحزاب تركز على الانتخابات القادمة أكثر من تركيزها على حل الأزمة

يواصل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي جهوده لإخراج تونس من الأزمة السياسية من خلال الاصغاء لمختلف الأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج على أمل التوصل الى صيغة توافقية تتيح في النهاية البدء بتنفيذ الاصلاحات.

وفي المقابل فإن مواقف الأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج تبدو أقرب إلى توظيف الأزمة السياسية منها الى البحث عن الخروج من الأزمة.

وخلال خمس أشهر من تاريخ اعلان مسار "وثيقة قرطاج2" لم تظهر نتائج تشير إلى امكانية حلحلة الأزمة والتوافق على حل ينهيها، فيما تحجج البعض بالتركيز على الانتخابات البلدية.

وبعد انتهاء الانتخابات البلدية كأول خطوة نحو تركيز الحكم المحلي، يبدو ان الدفة تحولت للتركيز على أولويات أخرى تتعلق أساسا بالانتخابات التشريعية والرئاسية المقرر اجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لتضيع أولويات حل الأزمة في متاهة المخاتلة السياسية.

وعلى ضوء حالة التشنج والتوتر السياسي الذي تشهده تونس تبدو مهمة قائد السبسي صعبة في اقناع جميع الأطراف المعنية بالركون للحوار.

وكان الحوار هو خيار الرئيسي التونسي رغم تعقيدات المشهد وانخراط الأحزاب السياسية في مساومات للظفر بحصة أكبر في الحكم.

وكان لافتا أن التصريحات الصادرة عن العديد من السياسيين كانت مغرقة في الضبابية دون موقف واضح يتيح التركيز على حل الأزمة السياسية بدلا من تعقيدها.

وفي خضم التجاذبات كان الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر مركزية نقابية تتمتع بنفوذ سياسي واجتماعي كبير أكثر وضوحا حين طالب صراحة برحيل الحكومة بعد أن فشل في انتزاع تعديل حكومي واسع يشمل اقالة وزراء فشلوا في مهامهم.  

وبإلقاء نظرة على المشهد السياسي التونسي وعلى تحركات الأحزاب السياسية، فإن الحراك السياسي يبدو كأنه يجانب مخرجات الأزمة والانتصار لمنطق الدولة والمصلحة العامة.

وتجمع كل المؤشرات على وجود استخفاف بخطورة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتجاهل لخطورة المرحلة التي يفترض ان تتطلب التركيز على الحلول لا القفز عليها بالتركيز على الانتخابات القادمة.

ويشير ذلك أيضا إلى وجود حالة من العبث السياسي تقفز على معالجة الملفات الحارقة في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تونس.

 ولم يكن من السهل على قائد السبي إدارة الحوار وسط فوضى في أولويات الأطراف التي كانت تميل بالأساس إلا رحيل الحكومة.

وركز الرئيسي التونسي على إقناع الأطراف بأن المطروح قبل التغيير الحكومي هو بناء عقد اجتماعي سياسي وفاقي ملزم من خلال صياغة جديدة لوثيقة قرطاج تفصح فيها الأطراف بكل حرية وشفافية عن رؤيتها لكيفية إدارة الشأن العام.

 ودفع الرئيس التونسي إلى تكوين لجنة فنية لتشتغل بكل حرية وتتفاعل في إطارها مختلف التصورات للخروج بعقد يكون بمثابة المرجعية التنموية والسياسية التي تشخص أوضاع البلاد تشخيصا دقيقا وتقدم صياغة تكون أرضية وفاقية ترتكز عليها الحكومة المرتقبة لتنهي الأزمة السياسية.

ويبدو أن بعض الأطراف تسعى إلى ترحيل الأزمة السياسية إلى قصر الرئاسة بقرطاج مع تجاهل وضع آخذ في التردي تختزله بيانات قاتمة تشير الى ارتفاع معدل التضخم وتردي المقدرة الشرائية للمواطن ونسبة بطالة مفزعة.

وتلك مؤشرات دفعت بالتونسيين عموما الى النفور من الأحزاب السياسية وفقدان الثقة فيها. كان العزوف عن التصويت في الانتخابات البلدية شاهدا على الهوة العميقة بين الأحزاب والشعب التونسي.

ويعتقد التونسيون أن هم السياسيين بالدرجة الأولى ضمان التموقع السياسي بعيدا عن شواغل الناس وهمومهم، فيما كانت الآمال معلقة على عملية سياسية تشاركية ديمقراطية وبناء على أداء يحظى بثقة الناس لا بناء على الاستخفاف بأوضاعهم المعيشية.

 وسواء تعلق الأمر بمن لاذوا بالصمت أو من أدلوا بتصريحات مقتضبة ملغمة ومشفرة فإن الملاحظ بإمكانه أن يكتشف أن بعض الأطراف تسعى إلى تحويل وجهة مبادرة الرئيس التونسي من مبادرة وطنية إلى مأزق سياسي والزج بمؤسسة الرئاسة كمحرك من محركات  الأزمة والحال أنها تقف على نفس المسافة من جميع الأطراف بما فيها التي ترفض حتى الجلوس إلى طاولة الحوار وهي التي ما انفكت طيلة السنوات الماضية تضخ خطابا ديمقراطيا بلا رؤية واضحة منتجة لسياسات ناجعة وفاعلة.

ولا يمكن أيضا في خضم الوضع الحالي تجاهل معطى مهما كان منتجا بالأساس للأزمة وهو تحالف حزب حركة نداء تونس العلماني مع حزب حركة النهضة الاسلامي بقيادة كل من الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي.

وقد واجه الرئيس التونسي اتهامات من قبل عدد من الأحزاب باسترضاء النهضة الشريك في الحكم على حساب خصومها من القوى السياسية العلمانية.

ولعل ذلك ما يفسر أنه في الوقت الذي منح فيه قائد السبسي ثقته في الأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج وترك لها حرية الصياغة الجديدة وأبدى استعداده للمطالب بما فيها تركيز تركيبة حكومية جديدة لم تقابل بعض الأطراف هذه الثقة بثقة متبادلة إذ تبدو الأنباء القادمة من أوساط بعض الأطراف مخاتلة وتستبطن نوعا من عدم الثقة في جهود الرئيس التونسي على الرغم من أنها تعرف جيدا أن رئيس الدولة انتهج منذ العام 2014 سياسات حيادية نسبيا ولم يتدخل في إدارة الشأن العام الموكول للحكومة باعتبارها سلطة تنفيذية إلا في حالات معينة وفق صلاحياته التي يكفلها له الدستور في رسم السياسات العامة.

والمؤسف حقا أن بعض الأطراف تبدو وكأنها تعيش خارج التاريخ السياسي بل خارج تاريخها الذاتي إذ ما زالت تلوح بأن شرعية العملية السياسية تبقى رهن الأوزان الانتخابية.

ورغم أنه من الإجحاف تجاهل الأوزان من حيث المبدأ غير أن نتائج الانتخابات البلدية أظهرت أن الأوزان الانتخابية استنفذت ثقلها في المشهد السياسي وبدت متقاربة وهو ما يفرض الكف عن مغالطة التونسيين بأن الأحزاب تمثل قوى قادرة على تحريك التاريخ.

في أعقاب اجتماع لجنة الخبراء المكلفة بصياغة وثيقة قرطاج 2 قال رضا سكندالي ممثل حركة النهضة في اللجنة إن النقاط الخلافية وفي مقدمتها تمسكها بيوسف الشاهد رئيسا للحكومة، إنه سيتم رفع المسألة إلى الرئاسات الثلاث وهو ما يعني ضمنيا ترحيل الخلافات إلى مؤسسات الدولة في مسعى إلى الاستقواء بها.