الأزهر يبدأ ثورته الناعمة
الانتقادات العنيفة التي تعرض لها الأزهر بسبب اتهامه بالتعثر في تجديد الخطاب الديني، تعامل معها في البداية كأنها تنتقص من دوره التوعوي، وشعر البعض أنها تزيده عنادا، ولم يقدم على خطوات ملموسة تطمئن من راهنوا عليه في التصدي لأفكار الجماعات المتطرفة.
الخطوات التي شرع الأزهر في اتخاذها مؤخرا بشأن الاشتباك مع كثير من القضايا المجتمعية، جعلت البعض يعيدون النظر في تقديراتهم السابقة. فلم يتصورا أنه سيأتي اليوم الذي يتطرق فيه الأزهر لقضايا تهم المرأة، مثل التحرش الجنسي والحجاب والنقاب، ويتبنى طرحا حضاريا ينصف فيه حرية السيدات.
المسألة تجاوزت ذلك إلى إعادة النظر في كثير من المسلمات التي كانت في حكم المحرمات. فقد نشرت جريدة الأزهر الرسمية غلافا حوى صورا لسيدات غير محجبات، كتبن مقالات حول قضايا نسوية مثيرة للجدل، وتطرقت بعضها لموضوعات تخالف الرؤية التقليدية التي حافظ عليها شيوخه.
الثورة الفكرية التي شرع الأزهر في القيام بها، جاءت متأخرة في نظر البعض، وهذا لا يهم فأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا، فقد كان بحاجة إلى إظهار المرونة المعروفة عنه تاريخيا، بما يتماشى مع رجاحة شيخه الدكتور أحمد الطيب، الذي واجه بثبات الحملات التي حاولت التشكيك في دوره، والتقليل من قيمة المؤسسة التي يرأسها.
الحاصل أن الحذر الذي بدا عليه في الاقتراب من بعض القضايا الحيوية، وفي مقدمتها تجديد الخطاب الديني، جعله يتعرض لانتقادات كثيفة، بعضها كان حسن النية، والبعض الآخر جاء عن سوء قصد. وفي الحالتين من الضروري تغيير الدفة والاستماع إلى صوت العقل الذي يفرض نهضة هذه المؤسسة من كبوتها والقيام بدورها التنويري.
التغييرات الجارية تسير بوتيرة بطيئة، ولم تصل بعد إلى جوهر القضايا التي تؤكد أن الأزهر يملك رؤية تتواءم تماما مع تطورات العصر، وقادر على دحض أفكار الجماعات المتشددة، لأن انسحابه، طوعا أو تحت ضغوط عدد من شيوخه، أدى إلى ترك الساحة لجهات لها مآرب سياسية خفية.
الغياب الظاهر عن بعض القضايا المهمة مكن دوائر أخرى من محاولة منازعته اختصاصه، وفتح الباب لكثير من الاجتهادات لاستفزازه وحضه على تقديم مقاربات تعزز اقترابه من نبض المجتمع، ولم يعد مستغرقا في موضوعات تراثية.
الخطوة التي ينتظرها كثيرون من الأزهر تتعلق بإحداث ثورة ناعمة في المناهج التعليمية وتنقيحها من الأفكار التي يستخدمها البعض دليلا على عدم سماحته، فضلا عن التخلص من سياسة التلقين التي تجاوزها الزمن، وتربية جيل منفتح ويؤمن بفضيلة الاجتهاد، التي حفظت للأزهر مرونته، وحولته إلى مؤسسة تحظى بمكانة عالية في كثير من الدول الإسلامية، لو جرى استثمارها جيدا لحققت لمصر فوائد سياسية كبيرة.
لقد لمست بنفسي هذه المكانة، عندما قمت بزيارتين لدولة أندونيسيا خلال عامي 2014 و2017، فلم يتم التعامل معي كصحفي مصري في جميع اللقاءات التي جمعتني مع مسؤولين ومثقفين في جاكرتا، بل اعتبروني صحفيا جاء من بلد الأزهر. ووجدت عددا كبيرا ممن التقيتهم إما درسوا في الأزهر أو لهم أقارب خبروا العلوم الفقهية في جامعته. والكل يحمل حنينا وولاء لهذه المؤسسة، ويحتفظون بانطباعات إيجابية.
الحضور اللافت الذي يملكه الأزهر في الخارج لم يتم توظيفه جيدا حتى الآن، وبقليل من التفكير والتخطيط يمكن أن يساعد في تطوير علاقات مصر مع دول كثيرة، يفضي إلى مردودات مادية متعاظمة.
المفارقة أن القيمة المعنوية التي يحظى بها الأزهر في الخارج تراجعت في الداخل، عندما أخفق في الامساك بدفة التجديد قبل أن يطالبه أحد، وعندما تراخى في الدفاع عن نفسه ولم يقدم رؤى عصرية، وجد في الانتقادات التي وجهت إليه تكئة لتبرير تقاعسه، وتم الصاق وصف "العلماني"، بمعناها السلبي المتداول (ضد الدين)، بكل من طالبوا بتجديد خطاب الأزهر.
بدلا من مجابهة الانتقادات بالمنطق والرد عليها بما يتسق مع الواقع، تحولت المسألة إلى معركة حامية بين فريقين، كل طرف يريد أن يهزم الآخر بالضربة القاضية. وكانت الحصيلة افتعال صراع في غنى عنه، أصبحت المحاكم إحدى ساحاته، وارتفعت فيها الحناجر وغابت الأصوات العاقلة.
البعض حاولوا إحداث ضجيج مفتعل وتوسيع الشروخ في الأزهر، بذريعة عدم قدرته على تطوير أفكاره، وهناك من سعوا إلى إيجاد فتنة بينه والحكومة، والتحريض عليه من خلال تحميله المسئولية الكاملة لتمدد الجماعات المتطرفة.
النقطة الرئيسية هنا أن الأزهر لم يسقط أمام هذا الطوفان، وحافظ على قدر ملحوظ من توازنه، وهو يجري عملية تغيير تدريجيا في بعض هياكله، حتى فاجأنا بجملة من المواقف المجتمعية التي تشير إلى وجود قراءة مغايرة قد تتم بالنسبة لدوره مستقبلا، ويبدو أن هناك عملية تجديد حقيقية يجري الاعداد لها، ربما لم تتبلور معالمها النهائية بعد، لكن ملامحها الظاهرة تؤكد الحرص على عدم التضحية بالأزهر.
الدوائر التي اجتهدت في ملء الفراغ الذي سببه الغياب النسبي للأزهر لم تستطع سده. وبدت بعض التصرفات كأنها نوع من استعراض للقوة الصاعدة، أو الانتقام وتصفية الحسابات مع البعض. وكان من تداعياتها الدخول في معارك جانبية، والانشغال بها على حساب مواجهة نمو الأفكار المتشددة في قاع المجتمع.
النتائج الراهنة تشي بأن هناك استدارة أو استفاقة كبيرة داخل مؤسسة الأزهر، ورغبة في استعادة مكانته داخل المجتمع عبر الالتحام مع قضاياه الحيوية، وتبديد الشكوك التي راودت البعض من المثقفين، وجعلتهم يفقدون الثقة في التجديد.
الفترة المقبلة تتطلب تكاملا في الجهود بين الجانبين، الأزهر والنخبة الثقافية، وبدء صفحة من الحوار البناء، تنهي الخلاف الذي احتل مساحة بارزة من الجدل، وانعكست آثاره في عدم تقديم رؤية شاملة لتجديد الخطاب الديني، وجنت الحركات المتشددة من ورائه ثمارا فكرية ضاعفت من أزمة المؤسسة العريقة وكادت تحبط من يعولون على دورها.
الأزهر أمامه فرصتان، إحداهما تتعلق بالانفتاح على هموم المجتمع ونخبه المتعددة، والأخرى الاقدام على مزيد من خطوات التطوير الجريئة، بما يعيده إلى الصدارة كمؤسسة دينية أولى في العالم، ومواجهة القوى التي تريد تقزيمه، بما ينزع عن مصر ورقة سياسية غاية في الأهمية.